أمى!. دائما أمى!. كالعادة أمى!. فى كل المواقف الصعبة، أو الملتبسة علىّ، أو المتعلقة بمسائل أخلاقية، أجد صورتها أمامى، وجهها الحبيب يطالعنى، وذكراها العطرة ترشدنى.. القدوة التى تصنعها الأم فى وجدان الطفل دون أن تقصد، (كتالوج) الضمير الذى يلهمنى، ويقول افعل ولا تفعل، أو تفسر ذكراها العطرة تصرفاتى الحالية!!.
س: لماذا لم أشعر بتعال قط صوب البسطاء؟. ج: لأنى كنت أسمع أمى تقول للزبال (حضرتك). س: لماذا يحزننى سوء العلاقة بين المسلمين والمسيحيين؟، ج: لأنى شاهدت علاقتها الحميمة مع جارتها المسيحية «طنط إيلين».
كانت كلتاهما فى عمر واحد، سكنتا البناية فى نفس الوقت تقريبا، شابتان فى عمر الزهور.. لكل منهما زوج محب وأطفال يأتون تباعا، ويكبرون سويا.. وفى تتابع الأيام تكمن الألفة، وينسج الود غزله المحكم الرقيق.
لم يكن ينقضى صباح واحد دون أن يتبادلا أخبار الأطفال والحديث الودود.. وأمى التى كانت تذهب للكنيسة للتهنئة بزواج أو تقديم عزاء، هى نفسها أمى التى كنت أراها واقفة على سجادة الصلاة حافية القدمين تؤطر وجهها الطرحة البيضاء.. تدعو بصوت مبتهل، وتقرأ القرآن فى خشوع، دون أى تناقض فى وجدانى بين المشهدين.
حينما ماتت أمى كانت (طنط إيلين) فى كندا تزور ولديها.. حينما عادت جاءتنا معزية، يُبرز ثوبها الأسود بياض شعرها، ويحفر الحزن تجاعيد وجهها.. ألقت بنفسها على الكرسى العتيق (الذى لطالما جلست عليه)، وانخرطت فى بكاء مرير.. بكاء الأخت لأختها، بكاء ذات كبد مقروح.. ونحن من حولها نواسيها ونهدئ من روعها!!، معترفين بأنها صاحبة حق أصيل فى الحزن وفى العزاء.
هل كانت (طنط إيلين) تبكى أمى أم تبكى أيامها!؟، اجتماعهما كل صباح تتبادلان- أمام مدخل الشقة- الحديث الودود، الآنية التى استعارتاها، الهدايا التى تبادلتاها، وطبق الكحك فى الأعياد، وفاكهة الموسم، والحب الكامن فى ثمرة البرتقال تتقاسماها سويا.
لذلك يبدو لى الأمر مستغربا كلما سمعت عن احتقانات بين المسلمين والأقباط، كيف تسوء العلاقات بين أتباع دينين أحدهما يدعو إلى المحبة (أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم)، والثانى يقدس رموز المسيحية كرموز الإسلام سواء بسواء.
كيف لا أحب المسيحى وقرآنى يقول إنه الأقرب لى مودة؟، وكيف لا يحبنى المسيحى وقرآنى يقول عن السيدة مريم: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين). كيف لا يحبنى وقرآنى يقول عن المسيح عليه السلام:(وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ . وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِين).
إذن فالأديان لا علاقة لها على الإطلاق بهذا الاحتقان.. السبب الحقيقى هو أن أخلاقنا صارت سيئة، كالعادة تفسر أمى الأمر بموقف لم أعرفه إلا بعد وفاتها بخمس سنوات.
حينما كنا نصلى على جثمانها فى المسجد، لم أكن أعلم أن صديقى (رائف) الفنان التشكيلى المسيحى يقف خارج المسجد فى انتظارها.. ببساطة هو لم يأت من أجلى، وإنما جاء من أجلها. كانت أمى تغمره بودها- ولم تكن تخبرنى- وتهنئه بالهاتف فى الأعياد. السيدة العجوز ذات السبعين عاما وجدت من واجب الأمومة أن تتصل به حينما شاهدته فى برنامج تليفزيونى يعرض لوحاته، لتهنئه وتمتدح أعماله.
أنا لم أفعل!، أمه نفسها لم تفعل!. الإنسان الطيب، الموغل فى المحبة، مسلما كان أم مسيحيا، لا بد أن يكون محبوبا من الجميع. أنت تحتاج إلى مجهود جبار لتكره من يحبك، وفى الغالب سوف تفشل، فالحب كالعطر لا بد أن ينتشر ويستنشقه الجميع، لذلك لم يكن مستغرباً أن ينتظرها رائف خارج المسجد، مبتعداً عن أنظارى، بقية السر الذى كان بينهما، فقط ليلقى على نعشها نظرة أخيرة، طويلة، دامعة، حافلة بالمحبة والأسرار الجميلة.