مشاهد ما بعد الانتخابات الأمريكية وتصريحات ترامب المتناقضة جعلت المرء يتصور لوهلة أنها انتخابات تجرى فى إحدى جمهوريات الموز، أو دولة من دول العالم الثالث، يتمسك رئيسها بكرسى الحكم بصرف النظر عن إرادة شعبه ونتائج الانتخابات.
والحقيقة أن رفض ترامب الاعتراف بهزيمته فى الانتخابات وإطلاقه سيلًا من الاتهامات الوهمية بوجود تزوير دون أى دليل، أوضح أننا أمام رئيس «خطر» لم تشهد أمريكا مثيلًا له منذ عقود طويلة، ويكفى الاستماع لخطاب المرشح الجمهورى الراحل جون ماكين عشية إعلان خسارته انتخابات الرئاسة فى 2008 أمام باراك أوباما، وكيف اعترف بالهزيمة ودعا لوحدة البلاد ودعم أوباما لتنجح أمريكا، ومقارنته بالكلام العدوانى والتقسيمى والمعادى للديمقراطية الذى يردده ترامب بعد خسارته الانتخابات، لنكتشف حجم التخريب الذى يمارسه.
ومع ذلك يبقى السؤال: لماذا لا يوجد خطر حقيقى من ترامب رغم كل الكلام التدميرى الذى يردده؟ والإجابة ببساطة هى قوة مؤسسات الدولة ومهنيتها واستقلاليتها عن السلطة التنفيذية.
والحقيقة أن فى أمريكا إرادتين متكاملتين: الأولى هى إرادة الشعب الحرة الذى اختار الديمقراطية، والثانية هى المؤسسات الأمريكية من قضاء وصحافة وشرطة وجيش وجهاز إدارى، جميعها تعمل من أجل دستور، أو كما قال رئيس أركان الجيش الأمريكى: «نحن لا نحلف اليمين لملك أو ملكة أو طاغية أو ديكتاتور، نحن لا نحلف لفرد أو لقبيلة أو لدين، نحن نؤدى القسم على حماية الدستور الأمريكى».
ولقد تمثل أحد التجليات الرئيسية لقوة المؤسسات فى أمريكا فى قدرتها على مواجهة شطط الرئيس ترامب طوال أربع سنوات من حكمه، وستجبره على مغادرة البيت الأبيض يوم 20 يناير إذا فكر أن يبقى للحظة محل الرئيس المنتخب بايدن.
والمؤكد أن فى أمريكا نظامًا ديمقراطيًا فعالًا يُطبق على الأمريكيين، ومؤسسات دولة راسخة ذات تقاليد واجهت تحديًا حقيقيًا تمثل فى قدرتها على أن تعيد تشكيل التطرف والشطط والكلام الأهوج إلى أداء سياسى مستقر له تقاليد وتحكمه قواعد الديمقراطية.
لقد هدد ترامب مرارًا معارضيه، ومنع بعض القنوات من دخول البيت الأبيض، ولم يحل كل ذلك دون قيام المعارضين بنقده وإصدار كتب تهاجمه وتتهمه اتهامات لا حصر لها، وكذلك فإن CNN التى منع مراسلها لفترة من دخول البيت الأبيض انطلقت فى دنيا الله الواسعة تهاجم توجهات ترامب بمهنية وتأثير كبيرين.
لا يختلف ترامب كثيرًا عن الزعماء المستبدين فى العالم الثالث، ما يعنى أن نفسية الاستبداد لا تخص مجتمعًا ولا ثقافة دون أخرى، إنما هى «آفة بشرية».. والفارق الرئيسى أن فى أمريكا والبلاد المتقدمة مؤسسات راسخة وقوية، قادرة على أن تقف فى وجه هؤلاء الحكام، وتعدل وتهذب من خطابهم ومن تطرفهم، وتجعل مغادرتهم السلطة، إذا خسروا الانتخابات، أمرًا حتميًا.