71 مليون أمريكى تقريبًا صوتوا لصالح «دونالد ترامب». إن هزيمة الرجل وإزاحته الوشيكة من البيت الأبيض تبدو وكأنها بـ«طعم الانتصار»، إن جاز التعبير. بعد أربع سنوات عاصفة فى البيت الأبيض، وهجوم لم ينقطع من الديمقراطيين والإعلام، واتهامات متنوعة، أهونها التهرب الضريبى، وأخطرها التواطؤ مع روسيا، وصولًا إلى محاكمة الرئيس، توطئة لعزله.. بعد هذا الضغط والحصار غير المسبوق، شعبيًا وإعلاميًاـ عالميًا وأمريكيًا.. حصل «ترامب» على 71 مليون صوت. ما سر جاذبية الرجل؟ كيف استطاع حصد كل هذه الأصوات؟ ربما يكون هذا هو السؤال الأكبر فى الانتخابات الأمريكية. هو سؤالٌ له دلالات لا تخفى على أكثر من مستوى.
يجسد «ترامب» نموذجًا صارخًا للتجرد من الأخلاق. لا يتعلق الأمر هنا فقط بالفضائل العليا المرتبطة بما يعتبره أغلب البشر عنوانًا للاستقامة والالتزام الأخلاقى، كالصدق والشجاعة والترفُّع عن الصغائر، وأمانة القول والفعل، وعِفّة اليد واللسان. بل ينسحب الأمر على ما هو شكلى كالذوق والتهذيب ومراعاة الآداب العامة وقواعد السلوك.
لقد تميز «ترامب» بإطلاق ألقاب ساخرة ومهينة على منافسيه السياسيين ومنتقديه. تم تجميع قائمة طويلة تضم هذه الألقاب. مثلًا جيمس ماتيس (وزير الدفاع المستقيل) لقبه «الكلب المجنون»، و«هيلارى كلينتون» تصير «النصابة»، وبالطبع «جو بايدن» هو «جو النعسان»! بعض هذه الألقاب يعكس حسًا فكاهيًا، فضلًا عن التحلُّل من «الإتيكيت»، والتخفُّف من قواعد الذوق المعروفة كأن يصِف أحدهم بأنه فلان الصغير (لقصره).
لقد أيد الملايين «ترامب» رغم كل هذا الابتذال الذى لا يليق بالمنصب الأعلى فى الولايات المتحدة. بل ربما يكون هذا هو سبب التأييد من الأصل. لقد رأى الكثيرون فى «ترامب» صوتهم المعبر عن رفضهم كل ما هو مؤسَّسى، فى الشكل أو المضمون. «ترامب» كان يقول علنًا ما لا يمكن قوله إلا همسًا. نصف أمريكا كانت رافضة لـ«باراك أوباما» بكل ما يُمثله. «ترامب» جسد هذا الرفض فى صورته الصارخة الخام، بل الفظّة والوَقِحة. أسلوب «ترامب» سبب رئيسى فى شعبيته. الجمهور الواسع لم يناصره «رغم» ما فيه، بل «بسبب» ما هو عليه.
«الترامبية» هى نقيض ما يُسمى «الصوابية السياسية»، أى وضع قيود على ما يمكن قوله ومناصرته فى المجال العام. ليس لائقًا أن يستخدم الأمريكيون اليوم لفظ «نيجرو» (زنجى)، ولا حتى «أسود». اللفظ «الصائب سياسيًا» هو «أمريكى من أصل إفريقى». المُسميات الأخرى تعكس عنصرية. نفس الأمر ينطبق على المثلية الجنسية، أو النسوية وغيرها من المفاهيم التى احتضنها اليسار العالمى فى العقدين الأخيرين باعتبارها نبراسًا للتقدمية. انتقاد هذه المفاهيم وغيرها صار ضربًا من «التجديف». «ترامب»، بشخصه وبالحركة السياسية التى يُجسدها، كان ثورة على كل هذا. هو رجل يقول ما يريد فى الوقت الذى يريد، وليكن ما يكون. رجل لا يتوخى «الصوابية السياسية»، بل يتعمد إغضاب الآخرين.
الشكل والمضمون لا يمكن فصلهما فى «ظاهرة ترامب». أسلوب «ترامب» يُشبه سياسته: فظ ومباشر ولا يُعنى كثيرًا باللياقة. شعاره هو المثل العامى المصرى «اللى ينكسف من بنت عمه ما يجبش منها عيال». يخوض فى الأمور كلها، من الضرائب إلى التغير المناخى، إلى الهجرة، إلى الحلف مع أوروبا.. بنفس الروح المقتحمة. ها هنا تكمن جاذبيته. هو لا يجتهد ليخبئ ما يؤمن به. لا يبذل جهدًا للتظاهر، أو لتغليف فظاظته بنعومة مصطنعة، بل يتباهى بالعوار الكامن فى شخصيته، فيدفع الملايين إلى التماهى معه لأنهم يُبهرون بهذه «الحالة» من المكاشفة الغريبة على عالم السياسة. ليس صدفة أن الرجل هبط على البيت الأبيض بالباراشوت من خارج هذا العالم.
بهذا المعنى، «ترامب» يُمثل ظاهرة «فوق السياسة» نفسها. السياسة، شأنها شأن أى نشاط إنسانى، لها قواعد. هذه القواعد تُحدد ما يُمكن قوله، وما يُمكن فعله فى المجال السياسى. مع الوقت تترسخ القواعد لتُصبح أعرافًا، ثم مؤسساتٍ. جوهر العملية السياسية فى الدول الحديثة هو المؤسسات. وليست المؤسسات سوى مجموعة من الممارسات والأعراف والقواعد التى اكتسبت رسوخًا وقُدسية بحكم الزمن. الرئاسة مثلًا مؤسسة محورية فى النظام الأمريكى. لها قواعدها، من حيث ممارسة مهام المنصب، والطقوس المرتبطة به. القواعد والأعراف المرعية ربما تفوق فى أهميتها القوانين المكتوبة.
غير أن «ترامب» ليس سياسيًا بالمعنى التقليدى (أو هكذا أقنع جمهوره). بل هو «عكس السياسى» الذى يعتمد على المداورة والكلام المعسول. هو «ثائر» على المؤسسة، بتقاليدها المرعية، وشكلياتها. فى القلب من «الترامبية» افتراضٌ ضمنى بأن المؤسسات ليست سوى خدعة للجمهور. ليست سوى مؤامرة على الشعب الأمريكى تُمارسها نخبٌ مُتغطرسة تعمل لصالحها وتحرم الناس من أن يكون لها صوت. العولمة والهجرة ودور أمريكا العالمى ومكافحة الاحتباس الحرارى والناتو.. ليست سوى أوجه مختلفة لسياسات الخداع التى تُمارسها النخب ضد الشعب لعقود. «ترامب» ثائرٌ على كل هذه السياسات. مُستخف بها، وغير عابئ بهالة القدسية التى تشكلت حولها.
«الترامبية» سوف تعيش بعد ترامب، بل ربما لن يغادر ترامب نفسه المشهد الأمريكى بعد مغادرة البيت الأبيض. الاستقطاب الذى أثاره أعمق من مجرد فجوة بين مواقف حزبية. هو منح صوتًا للكثيرين ممن يشعرون بأن «اللعبة السياسية» برمتها لا تسير فى مصلحتهم. بهذا المعنى، هو ليس مجرد جملة اعتراضية. هو ظاهرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى!
gamalx@yahoo.com