جمعت كلمة «الحصار» بين العديد من الأحداث المتفرقة التى شهدتها الأيام الماضية، كان أولها وفاة المبدع أسامة أنور عكاشة، وثانيها الهجمة العسكرية التى قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلى ضد المدنيين العزل الذين امتطوا متن أسطول الحرية لكسر الحصار الظالم على غزة، وأدت إلى مصرع وإصابة العشرات،
أما ثالثها فقد تمثل فى محاصرة اللجان الانتخابية من جانب قوات الأمن للسيطرة على انتخابات الشورى داخل العديد من الدوائر وتأمين نتائجها لصالح مرشحى الحزب الوطنى!. تفرقت هذه الأحداث الثلاثة فى دروب متنوعة لكنها اجتمعت كلها على أمر واحد هو «الحصار».
كان « الحصار» موضوع واحد من أوائل المسلسلات التليفزيونية التى قدم أسـامة أنـور عكاشة بها نفسه إلى الجمهور المصرى ليتبوأ من خلالها مقعده كعميد للدراما العربية. ويحكى المسلسل قصة مجموعة من المصريين الذين يعملون فى إحدى النواحى النائية من أرض المحروسة، ويشكل نادى «الناحية» مركز تجمع مسائى بالنسبة لهم، حيث يلتقى الطبيب والمدرس والمهندس والممرضة وشخوص أخر متنوعون.
وبينما كان الجميع فى حالة استسلام واستمتاع بالثرثرة فى حديث معاد ومكرر كل يوم إذا بعصابة يتزعمها شخص يدعى «سعد الأبيض» تقتــحم النادى فراراً من مطاردة الشرطة وتحاصر كل من فيه وتتخذ منهم رهائن،
ويقرر «الأبيض» أن يقتل رهينة من الرهائن مع مرور كل نصف ساعة إذا لم تنفض الشرطة عنه، ويبدأ زعيم العصابة فى إيهام رواد النادى بتنفيذ تهديده لتبدأ جوّانيات كل شخص منهم –قبل النحر- فى الظهور ليثبت «سعد الأبيض» للجميع أنهم محاصرون من داخلهم، إذ يكتشف الجميع فى النهاية أن أحداً لم يقتل وأن سعد الأبيض لعب لعبته عليهم.
وأتصور أن الطريقة التى تؤدى بها إسرائيل لا تختلف كثيراً عن أداء سعد الأبيض بطل مسلسل الحصار. فهى تحاول أن تقنع العالم كله -بالوهم- أنها تستطيع فعل ما تريد، وأنها يمكن أن تصل فى تنفيذ مخططاتها إلى أبعد مدى، وذلك هو الوهم الذى استطاع من احتشدوا على متن سفن «أسطول الحرية» أن يبددوه، لأنهم أناس تحرروا من حصارهم الداخلى ودفعوا الكثيرين معهم إلى التحرر.
وها هو رجل الدولة «الحر» رجب طيب أردوجان رئيس وزراء تركيا، يقف لإسرائيل ويسمعها كلاماً جديداً لم تعتد على الاستماع إليه من عبيدها العرب، ويقول لها بالفم المليان: «إننى سوف أستمر فى دعم سكان غزة حتى لو وقفت وحيداً وخذلنى العالم كله». هكذا يفعل من يعلمون أن السجن والحصار الحقيقى يرقد بين أضلع الإنسان وليس خارجه!.
وقد اضطرت الحكومة المصرية، وهى ترى الكثير من دول العالم تستدعى سفراء إسرائيل لديها، أن تستدعى السفير الإسرائيلى بالقاهرة لتعلن عن «أسفها وصدمتها»!، كما لم تجد الحكومة بداً من أن تفتح معبر رفح لتسمح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى أهل غزة. فقد كان المنظر سيئاً جداً أمام العالم الذى أخذ الكثير من قادته ومثقفيه فى الصراخ بضرورة رفع الحصار عن غزة، وحتمية أن يكون لمصر دور فى ذلك من خلال فتح المعابر!.
لقد تحركت الحكومة المصرية بفعل الزخم الدولى الذى أحاط بالجريمة الإسرائيلية فى حق الناشطين الذين قادوا «أسطول الحرية» برعاية تركية، ولم تجد مفراً من اتخاذ بعض الإجراءات «الخفيفة»، رغم أنها كانت مشغولة أشد الانشغال بـ«حصار» من نوع آخر يرتبط بانتخابات مجلس الشورى التى فرضت عليها ضرورة نصب سياج على الناخبين «المعدودين» الذين حاولوا أن يعملوا «بنصيحة» يسرا وأخواتها» بضرورة المشاركة.
حصار وسكاكين وعصى وضرب نار ومصابون من الإخوان ومصابون من رجال الشرطة فى مشهد لا يختلف كثيراً عما حدث فوق متن سفن «الحرية». الإخوان يؤكدون أن الأمن هو الذى حاصر مرشحيهم ومندوبيهم ومناصريهم، فى حين تصر الحكومة على أن الإخوان لا يمارسون اللعبة الانتخابية بنظافة، وأن تدخل الأمن كان بغرض حماية عملية التصويت وتمريرها بنزاهة!،
وشوية شوية كانت ستردد أغنية «ظلمونى الإخوان ظلمونى»، ومع الفارق فى التشبيه بالطبع إلا أن هذا الموقف يقترب كثيراً من موقف الحكومة الإسرائيلية التى تدعى أنها تسحق رؤوس المدنيين فى البحر والمدنيين المحاصرين على الأرض من أجل حماية أمنها والدفاع الشرعى عن نفسها، تماماً مثل الحكومة التى تطلق النار على المساجين الذين يرقدون فى الزنازين خوفاً من أن يؤذوها فى الشارع!.
إسرائيل أرادت أن تقول للعالم وهى تقتل وتحاصر أنها يمكن أن تصل إلى أبعد مدى، وحكومة الحزب الوطنى أرادت أن تقول فى بروفة انتخابات «الشورى» أنها سوف تصل إلى أبعد مدى فى انتخابات «الشعب» والرئاسة، وأن دنيا السياسة فى مصر سوف تتلون كاملة بلون « الحزب الوطنى» ولا مكان لآخر!.
فالمصريون محاصرون بهذا الحزب، مثلما حاصر سعد الأبيض أبطال مسلسل «الحصار» لأسامة أنور عكاشة، ومثلما هو حال غزة، تلك المدينة الكاملة التى أصبح سكانها رهائن فى أيدى الاحتلال الإسرائيلى. هؤلاء الطيبون الذين يصرخون منادين المصريين بأن يلعبوا دوراً فى رفع الحصار عنهم، فى حين أنهم لا يدركون أن المصريين فى حصار أشد!.
الأولى أن نتعلم نحن من سكان غزة الذين يشعرون بالحرية داخل السجن الذى فرضه عليهم الاحتلال الإسرائيلى، لأنهم محررون داخلياً واستطاعوا أن ينسفوا القضبان التى أحاطت بتفكيرهم ومشاعرهم وقراراتهم، وانطلقوا مناضلين فى سبيل حقهم فى أرض ودولة وحياة.
وأراهن أن أهل غزة سوف يحطمون قريباً سجنهم ويتخلصون من حصارهم وهناك عشرات الدلائل التى تؤكد ذلك، أما أهل مصر المحاصرون بالحزب الوطنى فأتصور أن أمامهم الكثير لأنهم ببساطة لا يشعرون بالسياج المضروب حولهم، ويبدو أنه من طول عمره – أى السيــاج – أصبح يُنظر إليه على أنه الحالة الطبيعية للحياة. رحم الله أسامة أنور عكاشة، ورحم الله شهداء أسطول الحرية، ورحم سبحانه وتعالى المصريين ( الميتين بالحياة )!.