تُقاس براعة الرئيس الأمريكي بأدائه الفعال في ملف السياسة الخارجية، ولذلك يسعى كل رئيس منتخب جديد إلى تبني نهج مختلف عن سلفه وإثبات تخطيه لكافة أخطائه. ولعل إدارة الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» خير مثال على ذلك، حيث سعت إدارته لتبني نهج مختلف عن الرئيس السابق «باراك أوباما» لملفات السياسة الخارجية الأمريكية. ولذلك ستسعى الإدارة الديمقراطية القادمة للتملص من نهج «ترامب» على مستوى السياسة الخارجية بحجة أنه تتخلله عيوب عدة.
وفي هذا السياق تشرح مقالة منشورة بمجلة «الشؤون الخارجية» للكاتب «ريتشارد فونتين»، الرئيس التنفيذي لمركز الأمن الأمريكي الجديد (CNAS)، ومستشار السياسة الخارجية للسيناتور الجمهوري «جون ماكين» لأكثر من خمس سنوات، تحت عنوان «القوة غير المستغلة لنفوذ ترامب: كيف يمكن لزعيم جديد استخدامها لتحقيق غايات أفضل؟»، نهج السياسة الخارجية الذي يسعى الديمقراطي «جو بايدن» لتبنّيه بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية. وتوضح ملامح التشابه والاختلاف بينه وبين «ترامب»، وكذلك تشير إلى كيفية الاستفادة من إرث الرئيس الحالي بملف السياسة الخارجية.
السياسة الخارجية لـ«جو بايدن»
استهل «فونتين» المقالة موضحًا أنه في حال فوز المرشح الديمقراطي «جو بايدن» بالانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر، فسيكون هناك تغيير ملحوظ في ملف السياسة الخارجية الأمريكية، حيث سيسعى «بايدن» لتبني نهج «ترميمي» يتشابه إلى حد ما مع نهج الرئيس الديمقراطي السابق «باراك أوباما»، ويختلف مع نهج الرئيس الحالي «دونالد ترامب»، ويعزو الكاتب ذلك للكراهية الشديدة لـ«ترامب» ولنهجه.
فعلى مدار أربعة أعوام عمل فريق «ترامب» على تبني نهج يغلّب مصلحة الرئيس الأمريكي الشخصية على المصلحة الوطنية. لذا صرَّح «بايدن» بأنه سيعمل على تغيير النهج المتبع في ملف السياسة الخارجية من أجل العودة للصورة التقليدية للولايات المتحدة الأمريكية عالميًّا.
لكن «فونتين» يقترح أنه لا يجب نبذ إرث «ترامب» في السياسة الخارجية بشكل كلي، خصوصًا أنه نجح في تحقيق خطوات على بعض المستويات، وتبنّى نهجًا جديدًا مكّنه من إحداث تغييرات في بعض الملفات الجامدة لسنوات. لذا يجب على الرئيس القادم -في حال كان «بايدن»- أن يستغل النفوذ الذي سيتركه «ترامب» وراءه.
الرؤى المشتركة بين «ترامب» و«بايدن»
ارتأى «فونتين» أن هناك ملامح مشتركة بين الرئيس الحالي «دونالد ترامب» وبين المرشح الديمقراطي «جو بايدن»، حيث أوضح «بايدن» أنه سيسعى للحفاظ على التنافس مع الصين، ولن يقوم برفع «فوري» للتعريفات المفروضة عليها. كما أنه سيتبنى سياسة خارجية تخدم مصالح الطبقة الوسطى الأمريكية.
وبالرغم من نبذ «بايدن» الواضح لـ«ترامب» ولسياساته، إلا أن «فونتين» رأى أنه سيستمر على نهج سلفه «ترامب» بشأن الاتفاقيات الجديدة مع كندا والمكسيك، والتي حلت محل اتفاقية التجارة الحرة لمنطقة أمريكا الشمالية. ولن يعلن «بايدن» عن وجود نية لديه لنقل السفارة الأمريكية مجددًا من القدس إلى تل أبيب، أو مطالبة أوكرانيا برد الأسلحة «الفتاكة» التي منحتها لها الإدارة الأمريكية في عهد «ترامب».
وبالنسبة للتحركات العسكرية الأمريكية، فمن الواضح أن فريق «بايدن» يشترك مع «ترامب» في الرؤى المتعلقة بإعادة بناء الجيش الأمريكي، بحيث يتنافس مع القوى الكبرى الصاعدة بدلًا من الزج به في حروب طويلة الأمد، ولذا ستواصل إدارة «بايدن» سحب القوات الأمريكية من مناطق عدة ومنها أفغانستان.
كيف يستفيد «بايدن» من نفوذ «ترامب»؟
يسعى الرؤساء لاستخدام قناعاتهم الأخلاقية، وعلاقاتهم الشخصية، وغيرها من العوامل، لتحقيق أهدافهم المنشودة على مستوى العلاقات الدولية. ويرى «فونتين» أن «ترامب» نجح في تحقيق نجاحات على مستوى الخصوم والحلفاء على حد سواء داخل مختلف القضايا، وهو الأمر الذي يجب أن يستغله «بايدن» وفريقه.
فعلى الرغم من أن «ترامب» اعتمد على نهج العلاقات الشخصية بدرجة أكبر، إلا أنه نجح في إحداث ارتباك لدى الصين وإيران وفنزويلا عبر فرض إجراءات حمائية وعقوبات اقتصادية عليهم. كما أنّ «ترامب» اعتمد شعار «أمريكا أولًا»، معلنًا أنه لن يزج بالقوات الأمريكية في أي حروب طويلة الأمد من أجل الدفاع عن الدول الأخرى، دون أن تحمي هي نفسها، فكل دولة عليها أن تبني المنظومة الدفاعية الخاصة بها. وهو ما لفت أنظار الدول لاحتمالية تخلي الولايات المتحدة عنها في أي وقت، ولضرورة بناء قوتها العسكرية الخاصة.
فضلًا عما سبق فقد انسحب «ترامب» من عدد من الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف، مما أضعف من جدوى تلك الاتفاقيات عالميًّا. وهو الأمر الذي عكس للدول أهمية وجود الولايات المتحدة داخل الاتفاقيات الدولية والتزامها بها لتشجيع دول أخرى على الالتزام. وكل تلك الخطوات ليست خطوات «حكيمة» على مستوى المصلحة الوطنية الأمريكية، إلا أنها كانت فعالة، ونجحت في إحداث تغييرات.
لذلك يجب على الإدارة الديمقراطية القادمة، والتي تهدف لإعادة بناء وضبط علاقتها مع العالم الخارجي عبر مزيد من المشاركة الدولية متعددة الأطراف، أن تعرف الوقت المناسب الذي يمكنها فيه التعويل على ما بناه «ترامب» من نفوذ، لتحقق المصلحة الوطنية الأمريكية.
الفرص المتاحة لـ«بايدن»
يؤشر «فونتين» إلى الاتفاق النووي الإيراني كمثال يمكن الاستفادة فيه من نفوذ «ترامب» وما حققه من إنجازات، فيوضح أن الاتفاقية تتخللها بعض العيوب التي يجب على الإدارة الجديدة أن تسعى لإصلاحها، عبر وضع بنود جديدة تضبط السلوك الإيراني. موضحًا أن الإدارة القادمة ستكون لديها مساحة تفاوض أكبر مع طهران وغيرها من الدول الأوروبية، لأن «ترامب» أحبط محاولات عمل مفاوضات جانبية بين الدول الأوروبية وإيران. ولذلك ستحرص تلك الدول على وجود الولايات المتحدة داخل أي اتفاق جديد لضمان نجاح الاتفاق وضمان تحقيق استقرار طويل المدى نسبيًّا على مستوى الملف الإيراني.
أما على مستوى التعامل مع الصين، فيرى «فونتين» أن التعريفات المفروضة على الصين حتى لو كانت مضرة إلا أنها تُكسب الولايات المتحدة نفوذًا كبيرًا يمكن استغلاله. فبدلًا من استمرار وجود تلك التعريفات لضمان بيع سلع ومنتجات الولايات المتـأرجحة انتخابيًّا؛ يجب على الإدارة الجديدة التفاوض بشأن رفع تلك التعريفات والقيود في مقابل تحقيق إنجازات أكبر داخل الملفات المتعلقة «بسرقة الملكية الفكرية، ونقل التكنولوجيا القسري، والمعاملة التمييزية للشركات الأمريكية في الصين»، وفي حال نجحت في ذلك فستتخذ العلاقات الأمريكية الصينية طابعًا أكثر توازنًا بدلًا من استمرار الصين في تحقيق مكاسب اقتصادية على حساب المصلحة الأمريكية.
كذلك يرى «فونتين» أن الإدارة الجديدة يمكنها الاستفادة من ضغط «ترامب» على أعضاء حلف الناتو لزيادة نفقاتهم العسكرية عن 2% من إجمالي الناتج المحلي، أو رغبته في زيادة مدفوعات اليابان وكوريا الجنوبية مقابل الوجود العسكري الأمريكي على أرضهما. وستتم الاستفادة عبر تطوير النظام الدفاعي لدى الولايات المتحدة ولدى الدول الأخرى، وعبر التشجيع على التكامل العسكري بدلًا من «ازدواجية الحلفاء» وبذلك يمكن حماية ممرات الطرق المائية في آسيا، والتشارك في جهود مكافحة الإرهاب داخل إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط.
ومن خلال تحقيق التكامل العسكري بين الدول، لن تساهم عملية تخفيض النفقات العسكرية الأمريكية ولا الانسحاب الأمريكي من بعض المناطق في حدوث فراغ أمني داخل تلك المناطق، حيث سيحل الحلفاء محل الولايات المتحدة عملًا بمبدأ «تشارك الأعباء».
دعم محلي أكبر لـ«بايدن»
يرى «فونتين» أنه يمكن التعويل على النجاح الذي يتم تحقيقه في ملفات السياسة الخارجية لاكتساب دعم على المستوى المحلي، وطمأنة للأطراف الداخلية. فمثلًا عودة «بايدن» للتوقيع على «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ» ستساهم في تنويع الأسواق التي تتعامل معها الولايات المتحدة، وفي الحد من الاعتمادية الكبيرة على الصين، وفي حدوث قبول محلي أمريكي واسع. إلا أن إعادة التوقيع يجب أن يصاحبها تغيير في بنود الاتفاقية بما يتناسب مع المصلحة الأمريكية.
وينطبق هذا أيضًا على الاتفاق النووي الإيراني، فوجود بنود جديدة داخل الاتفاقية سيعمل على تغيير رؤية الجمهوريين بشأن التفاوض مع إيران، وبشأن تقبلهم لبايدن، وهذا بدوره سيكسب «بايدن» شرعية سياسية أكبر داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
وختامًا، يؤكد «فونتين» على أن الإدارة القادمة لا يجب عليها التملص كليًّا من نهج «ترامب» لمجرد كراهية شخص الرئيس أو لإثبات وجود قيادة أمريكية جديدة؛ بل يجب عليها استغلال النفوذ الذي أحرزه «ترامب» في ملفات السياسة الخارجية مع الحلفاء والأعداء على حد سواء، لتشجيع الدول على مزيدٍ من الاندماج العالمي، ولتحقيق المصلحة الوطنية الأمريكية، وبذلك يمكن للولايات المتحدة أن تعود لمركز الريادة العالمية.