«اعتقدت النخبة اليسارية أن العدو الحقيقي للتقدم هو اليمين التقيليدي المتمثل في الكنيسة الكاثوليكية»، هذا ما أعتقده أنا أيضا، ولكني أذكره اليوم بخجل شديد، والحقيقية هي أني لا أعرف كيف تضايقت وامتعضت كثيراً حينما ذكر هذا القس الكاثوليكي أن الصراع بين النخبة اليسارية والنظام الشيوعي المستبد ليس سوى شجار بين أخوة ينتمون إلى نفس العائلة، ولم لا نفكر كذلك؟ ماذا فعلنا نحن كنخبة؟ هل فعلنا أي شيء كي نقنع هذه الجماهير المتدينة أننا لسنا ضد الدين ولا نعاديه؟ وكيف نجرؤ على إقصاء «الدين» وننسي انه القيمة الروحية المحركة لعدد من أخواتنا في هذه البلاد؟ ماذا فعلنا تجاه القمع المنصب على الكنيسة وأتباعها؟ هل تكلمنا إحقاقاً للحق أم أن أهواءنا تسيطر على مبادئنا وتلوثها؟ إن كانت الإجابة بنعم فلا نلوم سوى أنفسنا لما وصل إليه حال بلادنا».
لمن تنسب هذه الكلمات النابعة من صوت إصلاحي وقلب حر؟
هذه الكلمات هي قطعة من كتاب «الكنيسة الكاثوليكية .. اليسار والحوار البولندي»، الصادر عام 1979 – أي قبل عام واحد من تكوين حركة «تضامن» محرك التحول الديمقراطي في بولندا- وكاتبه هو«آدم ميخنيك» Adam Michnik أحد أهم القيادات السياسية في بولندا. وقد لعب هذا الكتاب، الذي تضمن مراجعات فكرية لليسار العلماني في بولندا، دورا تاريخيا في تمهيد الطريق لعملية التحول نحو الديمقراطية في بولندا وترسيخها بعد ذلك، لأنه نجح في تحقيق 3 نقاط أساسية:
1- تغيير التوجه الفكري للنخبة اليسارية التي رأت في الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها أناسا «رجعيين».
2- لحق ذلك تغيير في خطاب النخبة اليسارية الذي أصبح أكثر قرباً للجماهير المتدينة، فشرح لهم أهمية فصل الدين عن الدولة أي تحجيم دور الكنيس الكاثوليكية فيما هو خارج المسائل الدينية.
3- نتج عن ذلك خلق تيار أو حركة وسطية من المعتدلين من أنصار الاتجاهين، ساهمت في تسهيل عملية التحول نحو نظام ديمقراطي لأنها خلقت تيارا واسعا متجانسا داخل المجتمع متفقا على أهم المبادئ الأخلاقية والسياسية وقادرا على ترجمتها في صورة مبادئ دستورية وقانونية بل مأسستها في صورة تنظيمات سياسية بديلة.
والواقع أن الوضع في مصر أصبح أكثر إلحاحاً من أي وقت سبق لخلق مثل هذا التيار الوسطي، ومن هنا فإن مراجعة القوى المدنية في مصر، الليبرالية واليسارية منها، لخطابها تصبح ضرورة وطنية ومهمة تاريخية، لاسيما أن هذا الخطاب «العلماني» لا يزال من جهة غير قادر على التواصل مع الإصلاحيين أو المعتدلين من أنصار التوجهات الدينية ومن جهة أخرى غير قادر على النفاذ إلى قلب الشارع المصري – الذي مثله مثل الشارع البولندي- هو ذات مزاج ديني وتدين فطري، لأسباب عدة نذكر منها:
1- أن هذا الخطاب يحمل في طياته صيغا إقصائية تبطن نظرة غير مرحبة بالمختلف فكرياً، يدحضها صاحبها في العلن، ويبطنها في مكنونات نفسه فتنعكس على طريقته في التواصل، وبالتالي تدفع عددا لا بأس به إلى النفور منه.
2- 2- عدم قدرته على ترجمة قيمه المتمثلة في أهمية فصل الدين عن السياسة بصورة تركز على هذه القيمة وحدها من دون «إضافة نكهات» أيديولوجية تشعر بعضا من متلقيها أنها نتاج ثقافة غربية – بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه - ليست قريبة من مذاقه الشخصي.
ولذلك فإن قدرة النخبة المصرية على صياغة خطاب «جسري» يعيد صياغة دور الدين كمحرك روحي إيجابي للمجتمع، بل يعمل على التواصل الفعال مع المعتدلين من أصحاب التوجهات الدينية في إطار تيار وسطي مصري قوامه أسس ومبادئ «مدنية» يتوافق عليها الجميع سيكون هو النقطة المفصلية في حماية المجتمع من تقطيع أوصاله في استقطابات ثنائية لن تفضي إلا إلى مزيد من التشرذم وقليل من الفاعلية.