د. أيمن الجندى يكتب : فرح

الخميس 17-12-2009 00:00

منتصف الليل، موعدهما السرى كل ليلة.

كالعادة، منذ ثلاث سنوات ونصف، الطقس الوحيد من طقوس الحب الذى سمحت به. لم يكن حديثهما يستغرق أكثر من ثلاث دقائق، لكنهما كانا يحتملان اليوم من أجله. كانا قد فرغا من مناقشة كل التفاصيل، وانتهت إلى أن زواجهما مستحيل. جادل كثيراً، دافع باستماتة عن حبه، عن حقه فى حياة النور، عن عصفوره ذى الجناح الواحد الذى تخلى عنه الجناح الآخر، وكانت تجيبه بكلمة واحدة: الأطفال!

سألها عن حالها كما اعتاد كل ليلة: إزيك يا فرح؟ كويسة؟ وأجابته كما تجيبه كل ليلة، بصوتها الرقيق الحازم، الصارم الحنون، صوتها الذى يغزوه كالنجوم البعيدة، قريبة وبعيدة، أقرب شىء فى عالمه، وأبعد شىء فى عالمه:

- كويسة، الحمد لله.

وكالعادة، مثل كل ليلة، سألها عن ابنها، الذى يخطو على عتبات المراهقة، ويتفتح للحياة مثل زهرة جميلة، ورق صوتها وهى تجيب: كويس، الحمد لله. ورقَّ صوته وهو يسألها عن نغم، ابنتها الصغيرة، وأقربهم إلى قلبه، وأكثرهم شبهاً بها. نغم التى يقاوم نفسه كى لا يغرقها بالقبلات.

وسرت ضحكة مكتومة وهى تقول: كويسة، الحمد لله. تعرف شغفه بها كما تعرف كل شىء عنه. هو صفحة بيضاء لم يُكتب فيها إلا أشعارها. يذكر لقاءاتهما الأولى قبل أن تحسم أمرها، كانا جالسين فى الحديقة، وكان الهواء بارداً، ضمت بلوفرها الأبيض فى حركة عفوية على صدرها النحيل، وقرأت فى عينيه أنه يحسد البلوفر، فضحكت وقالت له: أنت صياد نساء فاشل، وليس فيك ذرة من غموض. عيناك ترفعان الراية البيضاء وتعلنان الحب، مع أن النساء يعشقن المناورة، والكر والفر، ولذة الفريسة حين تقع فى الصيد.

وتأخر قليلاً قبل أن يسألها السؤال المعتاد والأخير: «وعاملة إيه فى الشغل؟»، لكنها كانت تعلم أنه شرد فى ماضيهما المشترك، هو ليس بحاجة أن يفسر، فهى تفهم كل شىء:

- كويسة، الحمد لله.

وجاءت نهاية المكالمة كالمعتاد منها: «تصبح على خير»، ووضعت السماعة. وبقى ممسكاً بها وكأنه يمسك بيديها. بقلبه وقلبها، بأثمن ما عنده وأثمن ما عندها. ولبث ساكناً ثم وضع السماعة وأطفأ النور، ورقد على ظهره محملقاً فى الظلام.

................

ولأول مرة فى البيت الأنيق، ذى الروائح الذكية، الذى يشهد تنسيقه بحسن ذوقها، يرن جرس الهاتف فى هذا الوقت. نهضت (فرح) بسرعة بين النوم واليقظة، رفعت السماعة فجاءها صوته سريعا لاهثاً حتى شعرت بأنفاسه تتسرب إلى عنقها، راح يتكلم بسرعة حتى لا يعطيها فرصة للمقاطعة:

- سنموت ونفنى، ويبلى العالم من حولنا، ويصبح لا شىء، ونصبح نحن أيضا لا شىء. بعد خمسين عاماً من الليلة سيكون كل من تعرفينهم قد ماتوا، ولن يذكرنا أحد. فلماذا تضيّعين فرصتنا الأخيرة فى السعادة؟. تخشين أن يأخذ طليقك الأبناء!. هذه حربنا التى سنخوضها بشجاعة، بضمير رجل وقلب أم. لكن لا تضيّعى نفسك وتُضيّعينى.

كان يعرف أنها تشعر بالدوار، ويعرف أنها تتظاهر بالقوة والحزم، ويعرف أيضا أنها ضعيفة.

- خلصت اللى عندك؟، قالت بصوت مجروح.

- تزوجينى، قال فى استماتة.

- تصبح على خير. ووضعت السماعة.

................

لم تشهد البناية الأنيقة فى تاريخها مثل الذى حدث فى فجر هذه الليلة العجيبة. طرقات عنيفة متواصلة على الباب، وحين فتحته وجدته أمامها ومعه أخته التى لبست ثيابها على عَجَل، وقد بدا عليها الذعر وعدم الفهم. وكان معه أيضاً رجلان لا تعرفهما وشيخ معمم فى يديه دفتر. ووسط ذهولها راح يخبرها فى تصميم أنه لن يخرج من البيت إلا وقد تزوجا.

وبرغم أنها غضبت، وبرغم أنها ثارت وبكت، وبرغم أنها استندت على الحائط كيلا تقع، فإنه قرأ فى عينيها أنها موافقة وسعيدة.