المسلمون يظلمون أنفسهم مرتين!

جمال أبو الحسن الإثنين 02-11-2020 00:54

هل يتعرض المسلمون فى العالم لاضطهاد؟ نعم يتعرض المسلمون لألوان من الاضطهاد والتضييق فى بعض دول العالم. أغلب حالات الاضطهاد للمسلمين فى عالم اليوم يجرى، للأسف، فى دول آسيوية. وصل الأمرُ إلى حد التطهير العرقى، كما الحال مع مسلمى الروهينجا فى «ميانمار». فى الصين، ثمة ممارسات غير مسبوقة فى حدتها فى حق مسلمى إقليم «سينكيانج». فى الهند تصاعدٌ غير مسبوق لمشاعر الكراهية والتمييز ضد 170 مليون مسلم يُمثلون الكتلة السكانية الأكبر للمسلمين فى العالم، بعد إندونيسيا.

يظلم المسلمون أنفسهم إن هم أغمضوا العين عن هذه التجاوزات، أو مروا عليها مرور الكرام. التاريخ يخبرنا أن «مَن يهن يسهُل الهوان عليه». فى التاريخ دروس قاسية عن جماعات وطوائف صارت هدفًا متكررًا لموجاتٍ من الكراهية. من مخاطر هذه الموجات أنها تكبر ككرة ثلج، وأنها تتعاظم بصورة مُطَّردة، وتُغذى نفسها بنفسها ذاتيًا. كيف؟

الكراهية والتمييز ضد جماعة من الجماعات من جانب قوة مهيمنة أو إمبراطورية متسيدة، تضع أبناء الجماعة المستهدفة فى موقف بالغ الحرج والصعوبة. إن هم قبلوا بالتمييز فى حقهم صاروا فى نظر أنفسهم ونظر الآخرين مواطنين من الدرجة الثانية. إن هُم انتفضوا دفاعًا عن كرامتهم، أثاروا الآخرين ضدهم بصورة أكبر وعمقّوا مشاعر الرفض إزاءهم. المشكلة أن الشعور بالاضطهاد يتحول- ككل شىء فى الدنيا(!)- إلى سياسة. سرعان ما يظهر من بين الجماعة المضطهدة مَن يتبنون مواقف راديكالية متطرفة كنوع من رد الفعل على الاضطهاد. غالبًا ما ينتهى الأمر إلى لجوء بعض الفئات الأشد تطرفًا إلى ممارسة العنف كوسيلة وحيدة لتصحيح الكفة، ورَدّ المظالم. شىء قريب من هذا مارسته جماعات من اليهود فى مواجهة الإمبراطورية الرومانية. انتهى الأمر، كما نعلم، بتشريد اليهود وإنهاء وجودهم فى القدس لما يقرب من ألفى عام.


ما يزيد من تعقيد الموقف هو رد فعل الطرف الأقوى الذى يمارس الاضطهاد، إذ كلما لجأت الجماعة المضطهدة إلى استراتيجيات متشددة للدفاع عن نفسها، عزّز ذلك من مواقف المتطرفين فى المعسكر الآخر المُهيمن، فتزيد الممارسات التضييقية وأفعال الاضطهاد فى مواجهة الجماعة، فتتصاعد أعداد المتطرفين داخلها مع الوقت وتنحو أساليبهم للعنف بشكل مُطّرد، فيصبحون هدفًا للكراهية والاضطهاد بصورة أكبر.. وهكذا فى دائرة جهنمية تُغذى ذاتها بذاتها!

يخطئ المسلمون إن هم تركوا أنفسهم ضحايا لهذه الدائرة القاتلة. يخطئون إن هم تغافلوا عن دروس تاريخية كثيرة تتعلق بجماعات وجدت نفسها فى هذا المأزق، فصارت ضحية لتلك السلسلة من التفاعلات الحتمية، وانتهى بها الحال إلى الاندحار الكامل.

المسلمون ليسوا فى موقع السيادة فى عالم اليوم. هذه حقيقة يتعين أن تكون موضع اعتبار كل مُسلم من دون أن تكون سببًا للشعور بالنقص أو الدونية. إنها مجرد حقيقة تتعلق بدورات الصعود والهبوط التاريخية، التى طالما خضعت لها الحضارات. غير أنها حقيقة أساسية فى فهم وضعية المسلمين فى التوازن العالمى. ملايين المسلمين يعيشون فى بلادٍ لا يُشكلون أغلبية قاطنيها. فى هذه البلاد يعيش المسلمون كأقلية.

من بين هذه المجتمعات التى يعيش فيها المسلمون كأقلية، تظل المجتمعات الغربية (فى أوروبا والولايات المتحدة) هى الأكثر تسامحًا وتقبلًا لوجودهم بين ظهرانيها. السبب أنها مجتمعات تعتنق العلمانية بنسخها المختلفة. ومن ثَمَّ فهى تعامل الأديان بمسطرة واحدة، وتُقر بحرية الضمير والعبادة. هى أيضًا لا تمنح الأفضلية لدينٍ دون غيره، فليس لديها ما يُسمى «دين الدولة»، بل تعتبر المواطنة وحدها مناط الحقوق والواجبات. ومن ثَمَّ فهى الوجهة الأولى للمهاجر المسلم الساعى إلى حياة أفضل. وإن انتابك الشكُ فيما أقول، فليس عليك سوى أن تُجيل البصر فى تلك الصفوف الطويلة من الشباب المُسلم (والعربى بالأخص) الذى ينتظر تأشيرة الدخول إلى هذه المجتمعات كحُلمٍ منشود، وأملٍ يتمنى تحقيقه.

يظلم المسلمون أنفسهم- مرة ثانية- إن هم غضُّوا الطرف عن هذه الحقائق. يظلمون أنفسهم إن هم تغافلوا عن أن الأقلية كما أن لها حقوقًا لا يجب التفريط فيها، فعليها واجبات لا يمكن التملص منها. أهم واجب على مجتمع الأقلية- فى نظر كاتب السطور- هو الالتزام بـ«الاندماج الوطنى». لذلك فإن كلام الرئيس الفرنسى، فى 2 أكتوبر الماضى، قبل حادث نحر المدرس «صامويل باتييه»، عن «النزعة الانعزالية» لدى مسلمى بلاده، ينبغى أن يؤخذ بكل الجدية من جانبنا، نحن المسلمين، الذين يهمنا أمر هذا الدين وأمر معتنقيه أنى كانوا.

ليس مطلوبًا من المسلمين أن يعيشوا مغلوبين على أمرهم، مستضعَفين أو أذلة. ليس مطلوبًا منهم القبول بما يرونه إهانة لمقدساتهم. غير أن من واجبهم الالتزام الكامل بقيم المجتمع الذى يعيشون فى كنفه. تلك القيم هى التى جعلت عيشهم فيه كمواطنين أمرًا ممكنًا، بل مرغوبًا من جانبهم. إن كان المسلمون يعيشون فى مجتمعات علمانية، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على قيمها ومبادئها، وفى مقدمتها حرية الرأى والاعتقاد.

ليست هناك أقلية فى الدنيا لا تُعانى مشكلات أو نوعًا من التمييز ضدها. تلك طبيعة الأشياء. إن أراد المسلمون حقًا أن يواجهوا مظالم يتعرضون لها فى مجتمعات يعيشون فيها كأقلية، فليس أمامهم سوى الاندماج فى هذه المجتمعات، واستخدام الأدوات السياسية المُتاحة للأقليات لتحسين أوضاعها. البديل هو الدخول فى دائرة جهنمية طالما كشف لنا التاريخ عن مآلاتها المروعة!

gamalx@yahoo.com