دموع «جمال الغيطانى».. في باريس

فاطمة ناعوت الجمعة 30-10-2020 14:02

لم أرَ دموعَ الروائى الكبير «جمال الغيطانى» إلا مرةً واحدة قبل ستة عشر عامًا، فقد كان دائمًا باشًّا باسمًا فى وجه مَن يعرف ومَن لا يعرف. شاهدتُ دموعَه فى باريس، فى معهد العالم العربى. كنّا نجلسُ فى قاعة المسرح فى انتظار وصول الدكتور «سمير سرحان»، الكاتب الكبير، وأستاذ الأدب الإنجليزى، ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب آنذاك، حتى يكتملَ نصابُ الأعلام الكبار الذين جاءوا ليقدمونا، نحن الشاعرات العربيات، فى مهرجان «ربيع الشاعرات فى باريس» عام ٢٠٠٤. لكن الدكتور سمير لم يدخلِ القاعةَ على قدميه، بل جاء جالسًا على مقعد متحرك، إذْ كان يخضعُ للعلاج آنذاك فى مستشفيات باريس، لكنّه تحامل على مرضه وأصرّ على حضور الحفل ليرحّب بالوفد المصرى المشارك. صعد د. سمير إلى المنصة، وراح يرحبُ بأدباء مصر: الشاعر الكبير «أحمد عبدالمعطى حجازى»، الروائى الكبير «جمال الغيطانى»، ثم أنا، الشاعرة الصغيرة آنذاك، التى مثّلت مصرَ فى ربيع الشاعرات. ظمئ د. سمير وطلب الماء، فسارع «جمال الغيطانى»، وقدّم له كأسَ الماء، رغم الخصومة العابرة التى ألقت بظلالها عليهما وقتها. ثم ترقرق الدمعُ فى عينى «جمال الغيطانى»، مثل لؤلؤ نقىّ نبيل، حزنًا على مرض الرجل الذى هزّ أركان الهيئة المصرية العامة للكتاب أعوامًا، وزلزل خشبة المسرح بمسرحياته عهدًا. وذابت الخصومةُ بينهما، كما يليق بالكبار حين يختلفون فى الرأى، ويتفقون على الإبداع والثقافة والتنوير.
حين مرض جمال الغيطانى فى مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام، ثم دخل فى الغيبوبة، تصورتُها رحلةً من رحلاته الاستكشافية التى تعوّدَ أن يغوص فيها سائحًا بين متون كتب التاريخ، أو هائمًا بين دروب القاهرة وأزقّتها، أو جائلًا فى أروقة مساجدها وكنائسها ومعابدها، بمحاريبها ومذابحها وهياكلها، متفحّصًا فسيفساءها ومشربياتها وعراميسها وأجراسها وأبراجها وأيقوناتها، ليعودَ إلينا بعدها مُحمَّلا باللُمَح والتأملات، التى شكّل منها برنامجه الجميل: «تجليات مصرية»، الذى كان يقدمه لنا بصوته العميق ودارجته المصرية العذبة، فتمتلئ أرواحُنا وأدمغتنا غِنًى ومعرفةً بتاريخنا العظيم وتواريخنا الخالدة. تصورتُها جولةً معمارية بين أبنية مصر العتيقة يحِجُّ إليها ليجمع اسكتشات رؤيوية، ثم ينبئنا بما قال لنا السَّلفُ المصرى الصالحُ فى حكاياته الخالدة، فنتعلم ونثرى معارفَ وإيمانًا وتاريخًا. تصوّرتها رحلة صوفية إلى سِدرة المُنتهى، يصعدُ فيها إلى أعلى العِليّين، ليقف عند ضفّة الكوثر، يسألُ الرحمنَ أن يحمى مصرَ من أعدائها، ثم يعود إلينا مُحمَّلًا بالبشرى بأن الله يدّخرُ لمصر نورًا ورغدًا ووعدًا بالجمال والتحضر، آمين. تصورتُها رحلة الأديب الأكبر داخل الهرم الأكبر.
حدّثنى جمال الغيطانى عن ليلةٍ قضاها فى غرفة الدفن بالهرم، راقدًا داخل تابوت أقصر من طوله، فإذا بالزمن يستطيل فتغدو ساعاتُ الليل كأنها الدهر السرمدىّ الذى لا فجرَ بعده، من فرط الهول وغول الظلام، الذى «كأن له وبرًا»، على حد وصفه العبقرى، تكاد تلمسُه بيديك من فرط إدماسه وكثافة عتمته! أخبرنا أن جسدَه فقد ماديتَه، فتحوّل إلى «طاقةٍ» لا قانونَ فيزيائيًّا يحكمه. وأن طاغوتَ الظُلمةِ يُفقد العقل سيطرتَه على سائر أعضاء الجسد. فيعطى أمرًا لليد أن تتحرك، ولا تستجيب اليدُ! كأنما الأعضاءُ قد اسْتُلِبت جميعُها نحو آمرٍ ناهٍ جديد، ليس هو العقل، إنما هو قداسةُ اللحظة وهَوْلُ فرادتها! لحظةَ أن يرقدَ أحدُ أبناء الراهنِ، فى تابوتٍ صنعته يدٌ عاشت قبل خمسةٍ وأربعين قرنًا من الزمان، فى قلب قُدْسِ أقداسِ أعظم بناية شيدها الإنسانُ على مرّ التاريخ، عجيبةِ الدنيا التى تنظرُ بصَلَفٍ وتحدٍّ إلى جبروت الطبيعة من زلازلَ ورياحٍ وعواصفَ وأعاصير. كيف خاف من الظلام «جمال الغيطانى»، وقد عاينَ ألوانَ الظُلمات فى معتقلات العدو وخنادق حرب الاستنزاف، التى كادت رصاصاتُها تحصدُ روحه مرةً ومرّات، لكن الله كان يُنجيه من أجل مصر وأجلنا؟! قال لنا فى أحد مقاهى باريس: «أنا عايش بالصدفة بعد تجارب عديدة مع الموت عشتُها فى حروبنا ضد إسرائيل!» لهذا، حين دخل فى غيبوبته الأخيرة، كان الأملُ يراودُنى أن يهزمها ويعود إلينا، كما يعود من رحلاته الاستكشافية منتصرًا. لكنه آثر الراحة ورحل يوم ١٨ أكتوبر ٢٠١٥. فما أقبح المرض حين يباغتُ قلبًا مبدعًا ورقيقًا مثل قلب جمال الغيطانى!
التحمتْ رحلتُه الصوفيةُ الأخيرةُ بالأبد الذى لا يعود منه المسافرون. ونزفتْ مصرُ رمزًا عزيزًا لا يُجادُ به كثيرًا. رحل عنّا ليلحقَ بعرّابه وحبيبه «نجيب محفوظ»، تاركًا آذانًا ظامئة لسماع حكاويه الغنية عن عظمة مصر وعمارتها القديمة، وعيونًا جائعة تهفو لقراءة إبداعه. «جمال الغيطانى»، ارقدْ فى سلام، فمثلك خالدٌ لا يموت. «الدينُ لله، والوطنُ لمبدعى الوطن».