هناك مقطع فيديو شهير لحديث دار بين السيد/ عمرو موسى وعصام العريان في 2012، وذلك بعد فترة من قيام الثورة والتى سبق أن لحق بها الإخوان وسيطروا عليها، ووصل مرسى إلى رئاسة الجمهورية وكان قد تم قبل ذلك تقديم الرئيس مبارك للمحاكمة، وقضاؤه فترة محبوسًا. وكان مؤدى حديث عمرو موسى أن مبارك رئيس سابق وكبير في السن، وسيكون من المناسب الإفراج عنه بعدما قضى فترة محبوسًا، وكان رد العريان أن مبارك لن يخرج من السجن إلا على نقالة وإلى القبر، قالها مزهوًّا وكررها، والتفت للحديث مع شخص ثالث ألقى عليه التحية، دون حتى أن يكترث ويكمل حواره مع عمرو موسى.
ويقضى ربك أن يعزل مرسى بثورة شعبية كاسحة، ويتم اتهامه في قضايا هروب وتخابر، ويسجن ويموت في السجن، ويخرج منه إلى القبر، تمامًا كما كان العريان يخطط لمبارك، وحتى تكتمل الملهاة الإنسانية، يموت العريان بعدها بشهور، وفى السجن أيضًا، ويخرج منه إلى القبر كذلك.
وعلى غرار هذه الملهاة الإنسانية، وما فيها من دروس من السماء، يمكن النظر إلى ما فعله كل من بروس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، والرئيس الأمريكى ترامب، مع فيروس كورونا اللعين.
لقد استهان جونسون بالمرض، واتخذ قرارًا بترك الناس لتأخذ مناعة طبيعية (سماها مناعة القطيع)، وليسقط من يسقط من الضعفاء وكبار السن، وقال لهم استعدوا لفقدان أحبائكم، وتشاء الأقدار أن يتفاقم المرض، ويكون هو من أوائل المرضى، وينقل في حالة حرجة إلى العناية المركزة في المستشفى ويكتب له الشفاء بعد أسبوع عصيب، ويخرج وتتغير نظرته للأمر برمته ويصبح في تصرفاته وكأنه شخص آخر تمامًا غير الذي سبق أن عرفناه متعجرفًا ومتعاليًا على المرضى والمرض نفسه.
وتتكرر تجربة جونسون بعد ذلك بأشهر قليلة مع دونالد ترامب، الذي أنكر المرض أولًا، ثم نسبه إلى الصين، ثم أعاد فتح الاقتصاد بعد إغلاقه بفترة قصيرة، ودخل في صدام مع حكام الولايات، وتوقع إنهاء كل شىء منذ شهور عديدة، ويصارع لإنتاج اللقاح متزامنًا مع موعد الانتخابات للاستفادة سياسيًا، ويخالف آراء العلماء، ويتحدى المرض بالرغم من حصول أمريكا في منتصف أكتوبر على المركز الأول عالميًا في عدد الموتى (أكثر من 215 ألفًا) وفى عدد المصابين (حوالى 8 ملايين)، ويستمر في عقد الاجتماعات والمؤتمرات الانتخابية دون اتباع ولو الحد الأدنى من الاحتياطات، ويسخر من منافسه الذي يفعل ذلك، وأصيب هو وزوجته وأطقم مساعديه جميعًا بالمرض، وشاهدناه ينقل بالطائرة على عجل إلى المستشفى ثم يخرج بعدها دون تقارير رسمية تفيد باكتمال شفائه، وهكذا وبعد أن كان متعجرفًا ومتعاليًا على المرض ومستهينًا بآراء الباحثين والعلماء، أصبح رهنًا لمشيئة الله ولدعوات أنصاره وأعدائه على السواء، كل بحسب نيته ومبتغاه.
وقد ذكرتنى هذه الوقائع وهى تخص أطرافًا سياسية محلية ودولية، بواقعة شخصية، وهى تخدم نفس المفهوم الذي يهدف إليه هذا المقال، فقد كنت أدرس الدكتوراه في كندا، وكان هناك أستاذ جامعى يهودى ممن أتعامل معهم، وكان يناوشنى ولكنه لا يعادينى، وكنت أعرف كيف أتعامل معه وأستوعبه، ومثال ذلك أننى اشتريت سيارته الأمريكية الكبيرة عندما عرفت أنه ينوى بيعها، في سعى منى لبناء علاقة غير سيئة معه، وكان وقد باعنى سيارته، يعتبر أنه مازال يملكها، وطلب ذات مرة أن أصطحبه ومجموعة من الزملاء الكنديين في سيارتى (سيارته سابقًا) إلى مؤتمر علمى في واشنطن.
ولأننا كنا سنعبر الحدود بين كندا وأمريكا في خلال الرحلة، فقد ظل شغله الشاغل، وبتعمد واضح، ولأيام قبلها، أن يحذر من دعاهم لركوب سيارتى إلى الحضور مبكرًا جدًا، لأننى تحديدًا، ولكونى مصريًا، سأستغرق وقتًا طويلًا جدًّا مع رجال الهجرة المتشددين على الحدود، ويخشى هو ألا نلحق بالطائرة بعد ذلك إلى واشنطن.
وفعلًا وصلنا مبكرًا جدًّا، ومررنا جميعًا من نقطة الحدود، وأنا أولهم وأسرعهم، بينما تم حجزه هو لمدة خمس ساعات كاملة حيث، وهو الكندى، كان سيعمل أستاذًا زائرًا في جامعة أمريكية، وأوراقه كانت غير مكتملة، وقد تركناه لنلحق بالطائرة وبموعدنا في واشنطن وأتى هو في اليوم التالى، منفردًا وذليلًا، بعدما حدث معه هو شخصيًا ودون غيره نفس الذي تمنى أن يحدث معى، وظل يحكى هذه المفارقة لسنوات عديدة بعد ذلك.
هذه المفارقات هي دروس من السماء.