فى المقالات الخمسة السابقة، التى نُشرت على التوالى ضمن سلسلة مقالات «الطريق لجامعة الجيل الثالث»، رأينا كيف كان كل عصر يحصل على الجامعة التى يستحقها، فالعصور الوسطى كانت لها جامعاتها الدراسية، وحدث فيها توحيد للحقائق العالمية، وهدفها الرئيسى وتعليمها لقادة المجتمع، وكانت «جامعة باريس» نموذجًا يُحتذَى به، وفى العصور العقلانية، أصبح خلق المعرفة هو الهدف الثانى، وأصبح علماء البحث العلمى هم النخبة الجديدة، حيث تم تحويل الحقائق العلمية إلى التحقُّق التجريبى والمنطقى للنظريات والفرضيات المحددة، وتحوَّل العالم إلى مجموعات من الدول المتنافسة، وهنا كان مثالنا هو «جامعة هومبولت» فى برلين. وفى حقبة جديدة، وهى مرحلة الجيل الثالث، والتى سوف نسميها مبدئيًا «العصر الرقمى»، تم جلب بعض التطورات من العصر العقلانى إلى استنتاج منطقى- كل ما نعرفه وكل شىء يمكن أن يُختزل إلى أرقام- لكن من خلال نظرة أكثر شمولًا، وفى وجود العولمة، وكان نموذجنا فى هذه المرحلة هو «جامعة كامبريدج».
وفى المقال السادس، نستطيع أن نلخص الخصائص الرئيسية لجامعة الجيل الثالث كما يلى: لأن الهدف الثالث لجامعة الجيل الثالث هو «نقل القدرات إلى المجتمع»، فهذا يعنى أن الجامعة لم تعد تخدم نخبة ولكن المجتمع ككل، لم تعد الجامعة قطاعًا مستقلًا فى الدولة تخضع لقوانين العلم والتعلم فقط، فعليها أن تخلق قيمة للمجتمع بالمعرفة التى تولدها. وجامعة الجيل الثالث هى ذات مهام ثلاث- التدريس الموجه لتعليم المهنيين، وهذا يتم تنفيذه من قِبَل الكليات التقليدية، والبحوث المتطورة، من خلال إنشاء مؤسسات متعددة وعابرة، بالتعاون مع الصناعة، وكوسيلة لجذب مصادر دخل جديدة. وهى رائدة للأعمال- تدعم خلق قيمة للمجتمع بدعم مُبْتَدِئى التكنولوجيا وكسب المال من خلال تطبيق حقوق الملكية الفكرية. ولأنها عالمية، ليست قومية، فهى مركز المعرفة الفنية الدولية، تقوم بجذب الطلاب وأعضاء هيئة التدريس من جميع أنحاء العالم، وتستخدم اللغة الإنجليزية كلغة مشتركة. هى محور ومركز لشبكة المعرفة والابتكار، والتعاون مع الصناعة والشركات النشطة ومعاهد البحوث والجامعات فى الخارج. وتعكس الاتجاهات الحديثة للعصر الرشيد، وتعود إلى قيم عصر النهضة مثل وحدة الفكر والبحوث متعددة التخصصات. ومن هنا فإنها تحتاج إلى شكل تنظيمى جديد لتحقيق أهدافها، وهذا يعنى تقليص دور الكليات، ونهجًا جديدًا لتوجيه أموال البحث العلمى وترتيب أولوياتها، وطريقة جديدة للتعلُّم والتعليم الجماهيرى، وما إلى ذلك.
أما عن نموذجنا الآسيوى، جامعة باندونج للتكنولوجيا ITB، فقد تأسست فى عام 1920، وهى أقدم جامعة فى إندونيسيا. تخرج فيها أول رئيس للبلاد، أحمد سوكارنو. وخلافًا لمعظم الجامعات الإندونيسية، فلديها قاعدة بحثية قوية. ولديها اتصالات دولية ممتازة وشبكة خريجين قوية. وهى واحدة من الجامعات الرائدة فى آسيا للتكنولوجيا. تدرك ITB أن اقتصاد إندونيسيا يجب أن يصبح أكثر ابتكارًا ليتفادى أن يكون دوره فقط مجرد سوق للمؤسسات الدولية، وهى ترى فى هذا الصدد أن مهمتها هى استغلال خبرتها بوصف هذا واجبًا وطنيًا. تخضع ITB لمجلس أمناء، يعين رئيس الجامعة، ويتعين عليه الموافقة على قرارات الإدارة الرئيسية بالجامعة. رئيس الجامعة هو أعلى منصب فى الجامعة. وتشتمل على وحدة أكاديمية (SA)، ووحدة التبرعات (SKD)، ووحدة للابتكار وتنمية المشروعات (SUK). والهيئتان الأخيرتان هما هيئتان مستقلتان نسبيًا، مديراهما يُقترحان من قِبَل مدير الجامعة، ويعينهما مجلس الأمناء. وتتألف الوحدة الأكاديمية من مركزين: مركز البحوث (LPPM) والكليات، برئاسة عمداء، وتسمى مدارس. لدى مركز البحوث وحدة لحقوق الملكية الفكرية (IPR) تُدعى HAKI، التى ترخص التكنولوجيا لأطراف ثالثة. ولدى وحدة الابتكار وتنمية المشروعات حاضنة (IPB) تدعم المؤسسات التكنولوجية والمشروعات الشبابية التى نشأت من جهودها، كما أن لديها وحدة تسهيلات تسمى LAPI. وإجمالًا، يدرس لدى ITB، اليوم، أكثر من 15000 طالب، بدوام كامل، فى برامج الدراسات العليا والدراسات الجامعية والدكتوراه. وتأخذ ITB إنشاء الشركات على محمل الجد. وفى سياستها الإنمائية العامة نصّت على أنها ترغب فى: «إجراء البحوث لتطوير التكنولوجيا القابلة للتطبيق لبناء قوة اقتصادية وطنية». ومن المتوقَّع أن تقوم ITB بإيجاد وتشجيع رواد أعمال، لديهم قدرات لتطوير القدرة التنافسية للصناعات المحلية ضمن الاقتصاد العالمى، والجامعة ملتزمة بالمساعدة فى إنشاء المؤسسات القائمة على التكنولوجيا الإندونيسية، التى يمكن أن تتنافس فى الاقتصاد العالمى. ولديها ثلاثة أهداف هى: إغناء البيئة الأكاديمية، ونقل التكنولوجيا وتسويقها، وأخيرًا التنمية الاقتصادية الإقليمية.
* أستاذ بعلوم القاهرة
profhamedead@gmail.com