نحن لسنا مركز الكون!

جمال أبو الحسن الإثنين 26-10-2020 01:50

لا تتوقف هذه الفكرة أبداً عن إدهاشى. ربما تكون- من حيث أثرها الخطير الممتد والشامل- أعظم فكرة خطرت لإنسان على الإطلاق.

تلك هى الفكرة الكبرى التى جاء بها رجلٌ بولندى عبقرى اسمه «كوبرنيكوس»، فى منتصف القرن السادس عشر. من فرط إدراكه لمدى ثورية الفكرة وخطورتها الشديدة، اختار ألا يُعلن عنها سوى فى أيامه الأخيرة. تقول الأسطورة إنه شاهد النسخة الأولى المطبوعة من كتابه «عن دوران الأجرام السماوية» وهو فى النزع الأخير. صار هذا الكتاب من أكثر الكتب التى طُبعت على مدار التاريخ. يؤرخ البعض لبداية العصر الحديث وفجر الثورة العلمية بهذه الفكرة البسيطة. الأرض ليست مركز الكون. الأرض، فى الحقيقة، تدور حول الشمس. هى مجرد كوكب مثلها مثل الكواكب الأخرى.

لماذا كانت هذه الفكرة ثورية إلى هذا الحد؟ وكيف تجاوز تأثيرها عالم الفلك، إلى الفلسفة وتفسير الأديان، بل والسياسة والثقافة، وكل شىء تقريباً؟

أول عناصر قوة الفكرة هو غرابتها الشديدة، ومخالفتها للحس البدهىّ. كيف تدور الأرض حول الشمس، وهى تبدو لنا جميعاً ثابتة، بينما الشمس هى التى تتحرك.. تشرق من الشرق، وتغرب فى الغرب؟ الفكرة تُعارض منطق الأشياء، على الأقل فى الظاهر. ما لقيته من معارضة ورفض فى مبدأ ظهورها كان أمراً طبيعياً. عندما ثبتت صحة الفكرة بعد ذلك كان على البشر- والعلماء تحديداً- أن يمارسوا نوعاً عنيفاً من الشك فى كل المُسلمات التى تبدو بديهية ومنطقية فى الظاهر. ربما كانت فكرة «كوبرنيكوس» الجديدة هى البذرة الحقيقية لشكوك «ديكارت»، فى القرن التالى، فى كل شىء يبدو مؤكداً بالحواس فى هذا العالم.

ثانى عناصر قوة الفكرة هو ما تنطوى عليه من جرأة شديدة فى مخالفة الأقدمين جميعاً. ليست المخالفة هنا فى تفصيل صغير، أو استنتاج هين. هى مخالفة فى «النموذج» أو المنظور الذى نرى من خلاله الأشياء كلها. «كوبرنيكوس» أتى بنظرةٍ- وليس نظرية- جديدة للأشياء كلها. التصور السائد عن الكون وحركة الأجرام كان مستمداً من عالم الفلك «بطليموس»، الذى عاش فى الإسكندرية فى القرن الثانى. هذا النموذج وضع الأرض فى المركز، وحولها تدور الكواكب والشمس وكافة الأجرام. عبر 1500 عام، ظل هذا هو النموذج السائد عن السماء فى الأعالى. فكرة «كوبرنيكوس» لم تكن، والحال هذه، تحدياً للحس البدهىّ فحسب، وإنما كانت على نقيض كامل من التراث العلمى المستقر عبر قرون طويلة.

إذا كان التراث العملى يمكن أن يكون على خطأ فى شأن على هذه الدرجة من الأهمية والشمول، فما الأخطاء الأخرى التى يحفل بها مثل هذا التراث؟ أى حجية لكلام الأقدمين ونظرياتهم، إن كانت تتأسس على مغالطاتٍ كبرى مثل هذه؟ وما حاجتنا إلى كتب الأقدمين أصلاً، إن كان أمامنا كتاب الطبيعة ذاته.. نقرأه بأنفسنا، ونخلص إلى ما نخلص إليه- بالملاحظة والعقل- من استنتاجات ونظريات؟ لا شك أن هذه الأسئلة دارت فى أذهان الكثير من البشر، وبخاصة العلماء والفلاسفة، عندما ثبتت صحة نظرية كوبرنيكوس فيما بعد على يد «جاليليو»، فى مطلع القرن السابع عشر، ثم بنظرية «نيوتن» الشاملة فى نهاية ذات القرن.

ثالث عنصر فى قوة الفكرة يكمن فى ثوريتها. لم تكن فكرة «كوبرنيكوس» وليدة ذهن عبقرى متفرد فحسب. الحقيقة أن نموذج بطليموس الفلكى كان يتعرض لتحديات كبيرة من جانب العلماء العرب على وجه التحديد منذ القرن العاشر على الأقل. ومعروف أن مرصد «مراغة» (فى إيران الآن) حقق اختراقات كبيرة فى إثبات أخطاء بطليموس. «كوبرنيكوس» استند إلى هذا التراث الممتد. عند لحظة معينة، بدا له أن الأمر لا يتعلق بأخطاء هنا أو هناك. المسألة ليست مجرد ثغرات فى جدار متماسك. الأمر يتعلق بالجدار نفسه الذى يبدو أنه مبنى على نحوٍ خاطئ من الأساس. فجأة.. استقر كلُ شىء فى مكانه، وأصبحت الحسابات متسقة ومنطقية، عندما قام «كوبرنيكوس» بفعلٍ واحد: انتزع الأرض من مركز النظام، ووضع الشمس مكانها! هذا ما يُسمى بالثورة. العلم- وكل الأشياء فى الدنيا تقريباً (!)- يحدث بطريقين متكاملين: بالتدريج وبالثورة المفاجئة. «كوبرنيكوس» بنى على ما وصل إليه العرب من حسابات، ولكنه- عند لحظة معينة- اجترأ على المنظومة كلها.

والحال أن الآثار العميقة لفكرة «كوبرنيكوس» أبعد غوراً مما نتصور. لقد فقد الإنسان هذا التميز الذى منحه لذاته. صار ساكناً لكوكب عادى، يدور مثل كواكب أخرى حول الشمس. تلقى شعوره بالخصوصية والتفرد ضربةً قاصمة. فك لغزٍ واحد، أطلق ملايين الألغاز، خاصة عندما علم البشر أن الشمس ليست سوى نجم من 100 مليار نجم، فى مجرة ضمن 100 مليار مجرة! لقد فتحت «الثورة الكوبرنيكية» الباب لأسئلة بلا حدود عن مكان الإنسان فى الكون، وعن نظرته لذاته وللعالم.

فى 2013.. عندما أراد مدير إحدى المدارس الأمريكية أن يترك لطلابه حكمة لا ينسوها طول عمرهم عن إنكار الذات والتواضع، قال لهم فى خطاب التخرج: «أنتم لستم متميزين. الكوكب الذى تعيشون فيه ليس مركز المجموعة الشمسية. المجموعة الشمسية ليست مركز المجرة. المجرة ليست مركز الكون. الحقيقة أن الكون ليس له مركز. وعليه، فأنتم لستم مركز الكون!».

gamalx@yahoo.com