”إذا تنفسّتِ ببطء.. ستأتي إليكِ الغزالة“
كنت أعتقد أن صديقي يقول جملة تحث على التفكير الإيجابي، شيء مثل (إذا تفاءلت.. سترى النور في نهاية النفق) ولكني لم أفهم أي غزالة يقصد، فسألته، فقال همسًا دون أن يتحرك ”خلفك.. تحركي بهدوء“. التفتّ، ولم أر أي شيء، فسألته عن مكانها، فقال ”هناك.. خلف الشجرة“، نظرت حيث قال، فرأيتها! غزالة.. غزالة بحق، هادئة وشاهقة الجمال، بعيون ساحرة ورأس مرفوعة، تقف على استحياء خلف الشجرة، تتطلع إلينا بحرص لا يمنعها من الوقوف بطريقة تعكس قوتها وتمرّسها على الحذر، كأنها تغوي الصياد وتتحدى رصاصته.
كانت هذه أول مرة أرى فيها غزالة وجهًا لوجه في إحدى الغابات على حدود ولاية ميريلاند الأميركية. كانت على بعد خطوات مني عندما طلب مني صديقي أن أتنفس ببطء، انتبهت أنني أفعل العكس، كنت أتنفس بسرعة وحماس وفرحة لرؤية هذا المخلوق الجميل.
قفزت الأسئلة في رأسي عندما رأيتها ”من يستطيع أن يقتل هذا الجمال؟“، ”كيف اعتقدت طوال حياتي أن حيوان بهذه القوة الخلابة يمكن أن يكون فريسة سهلة؟“، ”لماذا يصورونها دائمًا كضحية لمفترس؟“، ألهذا نقول في مصر تعبير ”الغزالة رايقة“ للدلالة على روقان البال؟ هذا المشهد الذي رأيته للغزالة وسط الأشجار بالتأكيد هو المعنى الحرفي لصفاء البال. همس صديقي مرة أخرى طلبًا أن أخفض صوت تنفسي، وأن أهدأ تمامًا ولا أتحرك، كي تطمئن الغزالة وتأتي.
قال: «هي تستكشف ما إذا كنا صيادين أم لا. إذا كنا في إحدى ولايات الجنوب لن نستطيع رؤيتها لأن الغزلان يعرفون الصيادين جيدًا ويجيدون الاختباء، لكن هنا يندر الصيد، لذلك تعيش الغزلان في سلام، تأتي لتتعرف على الناس، تأكل الطعام من أيديهم وتلتقط معهم الصور، وتعبر الشوارع والطرق العامة للمدن، تعيش كما لو أن المدينة ملكها، تمشي في شوارع العاصمة كعارضات الأزياء، كما لو أن المدن بلا حيوانات مفترسة وصيادين».
لا أعرف لماذا ذهبت للمجاز مرة أخرى، كنا نجلس في الغابة، تحيط بنا الأشجار من كل ناحية، الأخضر اللانهائي الذي تتخلله آشعة الشمس الدافئة. أشجار عملاقة نبدو جوارها ضئيلين للغاية. بعض اللحظات التي يشعر المرء فيها بالحظ الجيد. حيث ينقطع الاتصال بالإنترنت، تسمع حفيف الأشجار بدلًا من إشعارات الهاتف، تخطو على الأرض الطينية اللزجة بدلًا من أن تتصفح مواقع التواصل، تصعد التلال وترى المزيد من الأشجار ممتدة في الأفق.
اعتدت رؤية الكثير من الحيوانات في المنطقة التي كبرت فيها في مصر، حيث عشت على أطراف القاهرة وفي ضواحيها. كانت الكلاب والقطط من سكان الحيّ، والحمير والأحصنة والبغال التي تجرّ العربات الخشبية.
وفي المزارع القريبة يعيش البقر والجاموس جنبًا إلى جنب مع الخراف والماعز والجمال والدجاج والبط والأوز والديك الرومي والحمام. وكنت دائمًا أسمع عن ”السلعوة“ التي لا أعرف إن كانت حقيقية أم محض أسطورة شعبية. وفي ليل المناطق الخالية، تظهر بعض الذئاب والثعالب.
كانت الحيوانات جزء من المشهد اليومي، القطط المذعورة من السيارات المتهورة، والكلاب المرعوبة من الصبية الأشرار، والحمير التي تعمل بمشقة طوال الوقت وتتحمل قسوة بعض سائقيها. وكان منظر الحيوانات المدهوسة على الطرق يكسر قلبي في كل مرة وما زال، وكان وما زال لدي حلم بإنقاذ حيوانات الشوارع في أي مكان.
عندما جئت إلى أميركا، لاحظت هدوء الشوارع وخلوها من الحيوانات إلا من الكلاب التي تمشي مع أصحابها. لا يوجد حيوانات شوارع في واشنطن وضواحيها إلا ما ندر، ملاجئ الحيوانات هنا تعمل مع المتطوعين على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحيوانات الأليفة، أما الحيوانات البرية تعيش إما في حدائق الحيوان، أو في الغابات والحدائق العامة والوطنية والمحميات الطبيعية التي تنتشر في كل مكان. ليس سهلًا هنا أن ترى قطة في شارع، إلا لو كانت قطة الحي، يعرفها السكان ويضعون لها الطعام والشراب.
لذلك عندما أرى حيوانا ضالا هنا، أفكر في مصيره، خاصة مع ندرة وجود قمامة في الشوارع ليأكل منها، وعدم وجود مصادر للمياه سوى البحيرات البعيدة نسبيًا عن مناطق المعيشة. أطمئن ليقيني أن من خلقه سيرزقه، ولمعرفتي أن الحيوانات ذكية، تطور مهاراتها طوال الوقت. تعرف أين وكيف تجد الطعام والشراب، وكيف تحمي نفسها وتجد ملجأ لها من البرد والافتراس والدهس.
تنقسم الحيوانات التي أراها هنا إلى عدة فئات، منها الكلاب الجميلة بكل أشكالها وأنواعها، والتي تمشي مع أصحابها في كل مكان وتُعامل معاملة الملوك. والقطط بالطبع ولكنها حيوانات منزلية لا نراها إلا في البيوت.
والسناجب التي تعبر الطرق وتتسلق الأشجار طوال الوقت، والثعالب التي اكتشفت أنها حيوانات تافهة وليست مكارة كما سمعت عنها. ورأيت مرة عائلة دببة سوداء تعبر الطريق. بالإضافة للغزلان التي تظهر فجأة وسط الأشجار وفي بعض الأحياء الهادئة.
وهناك بعض الطيور والزواحف، كالبطّ والبجع في البحيرات، والعصافير الجميلة الملونة، والسلاحف. ويسخر أصدقائي عادة عندما أقول إني رأيت السنافر في الغابة عندما ذهبت لأجمع الفطر الطازج.
في كل مرة أذهب للغابة أو لحديقة، أشعر بالطبيعة تلتف حولي كموسيقى خافتة، تعزف في خلفية مشهد الحياة اليومي، تعيش فيها كل الكائنات بسلام إلى جوار البشر. نعيش في المدن الأسمنتية ويعيشون في المدن الخضراء، نزور بعضنا البعض، يموت بعضنا أو بعضهم صدفة أو لسوء الحظ، ولكن العجلة تستمر، تجدد الطبيعة نفسها، ونتجدد نحن أيضًا، في دورة لا تنتهي من الانتخاب الطبيعي و«الغربلة». تنقي نفسها من الشوائب وتتغير وتتأقلم، تزداد جمالًا وأصالة كلما تقدم بها العمر، وكذلك نفعل نحن.
تذكرني الطبيعة بأهمية التناغم مع ما حولك، وتذكرني الحيوانات بالطيبة والذكاء والمرونة مع الظروف الصعبة. أحمد الله على النعم التي أحاول عدّ بعضها، كالجبال، والسهول الخضراء، والشلالات، والبحار، والبحيرات، والأنهار، والمحيطات، والحيوانات، والطيور. أثق في الطبيعة لأنها تتقن لعبة الجمال والقوة، تعرف كيف تكون لطيفة وحنونة، ومتى تغضب وتحزن وتموت.
يجبرك الجمال المحيط بك على تجميل نفسك، وتخضع أسيرًا لبهاء البساطة. وفي كل يوم أشعر باقترابي أكثر منها. أحاول الانتماء لهذا النسيج، أغزله وأتغزَّل فيه. تحميني الشجرة من الشمس بظلّ فروعها على وجهي، وتمد أفرعها بالفواكه أو الورد، وتفرش لي الأرض عشبًا لأنام عليه. ينام القط عند قدمي ليحرسني، ويستيقظ مبكرًا ليخبرني بعودة الشمس.
تحولت البصلة الفاسدة التي كدت أرميها إلى نبتة جميلة، تقف جوارها الطيور كل صباح، تأكل الحبوب وتسقط بعضًا منها في التربة، فتكبر وتصبح سنابل تنتج المزيد من الحبوب للمزيد من الطيور التي تقف على حافة الشرفة وتشاكس القط. بطّ البحيرة يعرفني ويأتي ليأكل الخبز من يدي، وتقف السناجب أمام كاميرتي لتمنحني صورة جيدة، وأكّد كلب الجيران فكرتي عن المحبة غير المشروطة. وكلما مررت بحالة من الضعف أو الضيق، أغمضت
عيني، وتنفست ببطء، كي تأتيني الغزالة.