حينما أستمع وأشاهد لقطات من الحرب الانتخابية الدائرة الآن فى الولايات المتحدة الأمريكية فإننى أتذكر نظرية تُنسب للفيلسوف الإغريقى الأشهر أرسطو (384- 322 قبل الميلاد)، تدعى نظرية التوالد التلقائى spontaneous generation، وأتذكر كذلك الخطأ الذى وقع فيه كريستوفر كولمبس (1451- 1506 ميلادية)، والذى هداه إلى اكتشاف القارة الأمريكية.
وكريستوفر كولمبس هو ذلك الإيطالى الذى أبحر من ميناء بالوس Palos فى جنوب غرب إسبانيا متجهًا إلى الغرب فى بحر الظلمات «المحيط الأطلنطى»، ووصل إلى جزر الباهاما فى البحر الكاريبى فى الثانى عشر من أكتوبر 1492، وهى السنة التى سقطت فيها غرناطة آخر معاقل المسلمين فى «الأندلس»، ومن بعده «أمريجو فيزوبوتشى» الذى أبحر من ميناء كاديز Cadiz فى جنوب غرب إسبانيا ووصل إلى سواحل خليج المكسيك وفلوريدا فى عامى 1497 و1498، «والذى سُميت أمريكا على اسمه»، واندفاع الأوروبيين بعد ذلك لاحتلال الأرض الجديدة «العالم الجديد».
وساعد على اندفاع الأوروبيين بكثافة إلى العالم الجديد وقوع أوروبا فى قبضة عصر الجليد الصغيرthe little ice age «1400- 1850»، وفيه انخفض الإنتاج الزراعى وسادت الاضطرابات التى ازدادت اشتعالاً بالخلافات الدينية، ومن ثم اتجه الأوروبيون فى هجرات مكثفة صوب العالم الجديد.
وعندما وصل الأوروبيون إلى الأمريكتين وجدوا أن هذا العالم مسكون بملايين البشر الذى عُرفوا بعد ذلك بالهنود الحمر، «الاسم الصحيح هو السكان الأصليون لأمريكا Aboriginal Americans»
وكانت لهم حضارات راقية لا تقل رقيا عن حضارات العالم القديم وقتذاك، واشتهر من هؤلاء السكان شعوب المايا Mayas، وشعوب الأزتك Aztecs، وشعوب الإنكاس Incas، وشعوب الأُلمك Olmec، وشعوب التوتوماك Totomacs، وغيرهم كثير.
وهنا تساءل الغزاة الأوروبيون: هل هذه الشعوب التى اكتُشفت فى العالم الجديد تنتمى إلى نفس النوع الذى ينتمى إليه الإنسان الأوروبى، ومن ثم يتحتم المحافظة على أرواحها؟ «وأعتقد أن نفس السؤال يسأله الإسرائيليون ومن وراءهم الآن بخصوص الإنسان الفلسطينى».
وتعددت الآراء فى الإجابة عن هذا السؤال. فمنهم من قال: إن هؤلاء السكان هم من سلالة المصريين القدماء، ومنهم من قال: إنهم بقايا القبائل اليهودية العشرة المفقودة، أو أنهم أحفاد بحارة سفن الإسكندر الأكبر «354- 332 قبل الميلاد» الذين أبحروا فى بحر الظلمات «المحيط الأطلنطى»، ومنهم من قال: إن الهنود الحمر هم من نجا من الغرق من سكان القارات الأسطورية المفقودة، مثل قارة الأطلنطس، وقارة «مو»، وقارة ليموريا... إلخ.
وأخيراً ساد بين الغزاة الأوروبيين رأى غريب مفاده أن السكان الأصليين لأمريكا ليسوا من نسل آدم، إذ يصعب اقتفاء الأثر الذى يثبت تحدرهم من آدم، وإنما وُلدوا من مادة ميتة «مادة غير حية»، كما تقول بذلك نظرية أرسطو فى التوالد التلقائى- آنفة الذكر- وموجزها أن هناك أحياء تولد تلقائياً من مادة ميتة مثل الضفادع التى تولد من الطين، والديدان والحشرات التى تولد من المواد النباتية المتعفنة، ومثل بعض الأسماك التى تولد من الرمل وماء المطر... إلخ.
وبعد أن ساد الرأى القائل إن السكان الأصليين للأمريكتين ليسوا من نسل آدم، كما أنهم لا يعتنقون المسيحية، فقد كان ذلك مبرراً كافياً للغزاة الأوروبيين لإبادة الهنود الحمر، ولم يتبق منهم غير عينات هم الذين تمكنوا من الاختباء فى الغابات، خاصة فى أمريكا الجنوبية.
ويقال إن السكان الأصليين للأمريكتين كانوا فى صراعات وحروب ونزاعات مستمرة مع بعضهم البعض، وقد تحالف بعضهم مع الغزاة الأوروبيين ضد جيرانهم من السكان الأصليين، غير أن الأوروبيين ما لبثوا أن قضوا على الجميع.
وقد عرف العلماء فيما بعد أن السكان الأصليين للأمريكتين هم شعوب آسيوية انتقلت إلى الأمريكتين عبر مضيق «بيرنج» الذى يفصل بين آسيا وألاسكا، والذى تتجمد مياهه فى الشتاء ومن ثم يصبح ممراً أرضياً تعبره الحيوانات، وقد انتقل الصيادون الآسيويون، ربما متتبعين بعض حيوانات الصيد، من آسيا إلى الأمريكتين، وكان ذلك منذ 40 ألف سنة «تقريباً» قبل الميلاد.
وبعد أن أباد المستعمرون الأوروبيون الهنود الحمر إلا قليلاً، أخذ بعض العلماء يبحثون فى صحة نظرية التوالد التلقائى لأرسطو.. وتوالت التجارب المعملية التى أدت فى النهاية إلى اكتشافات لويس باستور «باستير»، «Pasteur»،«1822 -1895» وعلم البكتريا الحديث، ولذلك حديث آخر.
وإنى أرى أن «ثقافة نظرية التوالد التلقائى لأرسطو» هى ثقافة مازالت سائدة وسط الكتلة الانتخابية الكبرى والفعالة فى المجتمع الأمريكى، خاصة فى أمريكا الشمالية، وهى ثقافة قائمة ومرسخة للعنصرية وكراهية واحتقار الإنسان ذى البشرة داكنة اللون بدرجاتها المختلفة.
وأعتقد أن الرئيس الأمريكى ترامب ينتمى ثقافيًا إلى هذه الكتلة الانتخابية الفعالة، وهو يجيد اللعب عليها، ومن ثم فإنى أتوقع نجاحه فى هذه الانتخابات بتفوق كبير على عكس الكثير من التوقعات.
نعود إلى الخطأ الذى وقع فيه كريستوفر كولمبس وهداه إلى اكتشاف القارة الأمريكية، ففى رحلته من ميناء بالوس فى جنوب غرب إسبانيا قاصداً سواحل آسيا الشرقية فى عام 1492 اعتمد كولمبس على معارف عربية (مترجمة إلى اللاتينية) تحتوى على جداول فلكية يتم بواسطتها تحديد موقعه الجغرافى فى بحر الظلمات (المحيط الأطلنطى) فى أى لحظة من خلال رصد الأجرام السماوية بآلات رصد ملاحية.
وكان العرب قد صمموا هذه الجداول الفلكية على أساس أن طول الميل العربى هو 1973 متراً، بينما كان الميل الإيطالى فى القرن الخامس عشر (فى زمن رحلة كريستوفر كولمبس) يساوى 1589 متراً، أى أصغر من الميل العربى بمقدار 384 متراً.
وبانتشار الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية انتشر أيضاً فى بلاد أوروبا معرفة مقدار الدرجة (فى خطوط الطول على سطح الكرة الأرضية) بالقياس المأمونى (الخليفة المأمون بن هارون الرشيد)، والتى قدر فيها المسلمون طول هذه الدرجة بالميل العربى. ولم يلتفت الأوروبيون إلى مخالفة أميالهم للميل العربى فوقعوا فى خطأ كبير فى حساباتهم الفلكية، ومثال ذلك الخطأ الذى وقع فيه كريستوفر كولمبس الذى قدر طول الدرجة بمقدار 65 و 2 على 3 ميلاً إيطاليًا (ولم يقدره بالميل العربى)، ومن ثم قدر المسافة ما بين سواحل أوروبا الغربية وسواحل آسيا الشرقية بأقل مما هى فى الحقيقة بقدر عظيم جداً. ومن ثم فإنه لولا الخطأ الذى وقع فيه كولمبس هذا لم يكن رأى أنه من الممكن أن يصل إلى بلاد الهند والصين راكباً بحر الظلمات (المحيط الأطلنطى) فى سفن صغيرة لا تنقل من الزاد ما يكفيه مدة شهور عديدة، فامتنع عن سفره ذلك العجيب الذى هداه إلى اكتشاف القارة الأمريكية.
* أستاذ الجيولوجيا بالجامعة البريطانية