هل الانتخابات الأمريكية القادمة مفصلية حقاً؟ هل العالم بعد 3 نوفمبر القادم لن يكون كالعالم قبله اعتماداً على ساكن البيت الأبيض الجديد؟ الإجابة نعم ولا!
إليك حجتى: فوز ترامب فى الانتخابات، إن حدث، سيكون مفصلياً بالفعل. على أن هزيمته على يد منافسه، مرشح الحزب الديمقراطى، «جو بايدن»، لن يكون لها نفس الأثر الحاسم على عدد من الموضوعات الدولية الرئيسية فى عالم اليوم.
فوز «ترامب» من شأنه أن يُعطى دفعة كبيرة لعددِ من الاتجاهات العالمية الكبرى. أهمها على الإطلاق ما يتعلق بالحركة المضادة للعولمة. العولمة نظام كونى شامل لترتيب الشؤون الدولية فى شقيها الاقتصادى والسياسى. للعولمة أيضاً أبعاد تكنولوجية واقتصادية. هى ظاهرة متصاعدة منذ ثلاثين عاماً على الأقل، جوهرها الاعتماد المتبادل وتقسيم الإنتاج على مستوى عالمى من دون اعتبار كبير للحدود بين الدول. غير أن هذه المنظومة تعرضت لانتكاسة كبيرة منذ ما يزيد على العقد من الزمان بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية (2008)، وتململ الطبقة الوسطى فى العالم الغربى بالذات. باعث التململ الأهم هو ثبات الدخول وهروب الوظائف إلى الاقتصادات الصاعدة فى آسيا.
«ترامب» لم يصنع انتكاسة العولمة. هو عبّر عنها وبلورها فى صورة سياسية صارخة. امتزج خطابه المضاد للعولمة بنزعة شعبوية صاعدة، وأخرى قومية زاعقة. أربع سنوات من حكمه أعطت زخماً كبيراً لحركاتٍ شعبوية وقومية مضادة للعولمة عبر العالم من أوربان فى المجر، إلى «بولسنارو» فى البرازيل، إلى «سالفينى» و«دى مايو» فى إيطاليا. هؤلاء جميعهم حققوا انتصاراتٍ كاسحة ومفاجئة- ومتواصلة لعددٍ من السنوات- فى بلادهم. ترامب لم «يخترع» هذه الموجة الشعبوية، ولكنه «ركبها». مستشاره الأشهر «ستيف بانون» قدم النصح كذلك للكثير من هؤلاء الزعماء الشعبويين. «بانون» قد يكون المُنظِّر الأخطر على الإطلاق لأنه فهم «منطق» هذه الموجة الصاعدة. فى مناظرة قبل شهر بمدينة تورنتو قال بانون: «ما يريده الناس فى أوروبا هو استعادة سيادة دولهم التى اختطفها الاتحاد الأوروبى. لا يريد الأوروبيون إنشاء (الولايات المتحدة الأوروبية). لماذا يكره الناس كلمة القومية؟ لماذا تسخرون من مفهوم القومية الذى يعنى المواطنة داخل الدولة؟».
على الناحية الأخرى، نجد أنصار العولمة يعترفون بمظاهر فشل كثيرة فى المنظومة. غير أنهم لا يعتبرون أن تفكيكها هو الحل. هناك مشكلاتٌ كونية لا يمكن مواجهتها سوى بالتعاون بين الدول. على رأسها تغير المناخ، ومؤخراً أزمة الوباء وتوابعها. انتقادهم الأكبر لإدارة «ترامب» يتعلق بانسحابها من أُطر العمل الدولى الجماعى: اتفاقية باريس للمناخ، واليونيسكو، فضلاً عن وقف المشاركة فى الاتفاق الدولى من أجل الهجرة، وأخيراً التهديد بوقف تمويل منظمة الصحة العالمية. يُضاف إلى ذلك الطريقة الاستعلائية الأحادية فى التعامل مع الحلفاء، خاصة على الضفة الأخرى من الأطلسى.
الموقف من العولمة، والحال هذه، هو القضية الكبرى فى هذه الانتخابات. انتصار «ترامب» سيمثل ضربة- قد تكون قاتلة- لمنظومة العولمة. انتصار «بايدن»، على الجانب الآخر، لن يوقف ظاهرة انحسار العولمة. على أنه قد يبطئها بعض الشىء. قد يكون انتصار «بايدن» مقدمةً لتصدعاتٍ أخرى فى معسكر الشعبويين. الشعبويون ليسوا بلا قضية. هم يعرفون بالضبط مكامن الضعف والفشل فى نظام العولمة. يدقون على «الأوتار الصحيحة»، ويضربون حيث يؤلم الضرب. على أنهم- وهذه هى مشكلة الشعبوية فى كل زمانٍ ومكان- لا يمتلكون حلولاً حقيقية. هم يستطيعون الفوز بالانتخابات، ولكن ليس بمقدورهم إنتاج سياسات. موجتهم الصاعدة قد تنحسر بعد وقتٍ طال أم قصر. غير أن مشكلات العولمة ونقاط ضعفها الخطيرة لن تختفى من تلقاء نفسها. انتصار «بايدن» لن يحول الدفة فجأة لصالح العولمة.
الانتخابات الأمريكية فاصلة أيضاً فيما يتعلق بعددٍ من القضايا الدولية الأخرى. القضية الأهم هى صعود الصين، وكيفية التعامل معه. مرة أخرى: انتصار «ترامب» قد يُسرع مواجهة محتملة مع الصين. قد ينزلق العالم بسرعة إلى أجواء حرب باردة ثانية. انتصار «بايدن»، على الجانب الآخر، لن يلغى هذه المواجهة التى يبدو أن الطرفين يدركان بصورة متزايدة أنها حتمية. إدارة «بايدن» لن تُهادن الصين، لكنها قد تُغلف المنافسة الشديدة معها بغلافة رقيقة من الدبلوماسية. أهم شىء يمكن أن يفعله «بايدن» هو استعادة مصدر القوة الأهم تاريخياً للولايات المتحدة: حلفاؤها. أغلب الظن أنه سيخوص صراعاً مع الصين عبر تطويقها بالحلفاء، لاحتواء صعودها من دون مواجهة حاسمة.
على ساحة الشرق الأوسط، سوف يكون انتصار «ترامب» حاسماً من حيث تعزيز الاتجاهات القائمة، وأهمها حصار إيران لحد الخنق. خلقت إدارة «ترامب» وضعاً جديداً فى الشرق الأوسط بتعزيز «حلف» عربى/ إسرائيلى فى مواجهة إيران، وربما تركيا. إدارة «بايدن» لن يكون بمقدورها تفكيك الشبكة التى أقامها «ترامب» بشكل كامل. ربما قد يعود «بايدن» للاتفاق النووى مع إيران، كما يقول. ولكنه، سيبدأ حتماً من حيث انتهى ترامب.
صفوة القول إن انتصار «ترامب»، إن حدث، سوف يكون بالفعل حدثاً فاصلاً من عدة أوجه. أما انتصار «بايدن»، وهو الأرجح على ما يبدو، فلن تكون له تداعيات على نفس الدرجة من الشمول والتأثير. إن النتيجة الأهم لانتصار «بايدن» ستتمثل فى هزيمة ترامب!
gamalx@yahoo.com