فى الأسبوع الماضى، نشرت مقالًا فى هذه الزاوية تحت عنوان «كيف صُممت مقدرات أمننا القومى؟»، وهو المقال الذى سعى إلى توضيح فكرتين أساسيتين؛ أولاهما أن مقدرات الأمن القومى يتم إرساؤها غالبًا انطلاقًا من تشخيص دقيق لطاقة التهديدات وأنواعها، وثانيتهما أن تغير طبيعة تلك التهديدات يُملى علينا ضرورة تطوير مقدرات أمننا القومى بما يتجاوب مع ما تفرضه من تحديات.
فى الأسبوع الماضى، تحدث الرئيس السيسى إلى المواطنين، خلال فعاليات الندوة التثقيفية الـ32 للقوات المسلحة، على هامش الاحتفالات بنصر أكتوبر المجيد، ومما قاله خلال هذه الندوة إنه «لا يمكن هزيمة مصر بحرب من الخارج».
كان الرئيس قد تحدث أيضًا خلال افتتاحه عددًا من المشروعات التنموية على هامش الاحتفالات بذكرى «ثورة يونيو»، قبل أكثر من ثلاثة شهور، متناولًا مفهوم أمن مصر القومى باعتباره «لا ينتهى عند حدودها السياسية».
نفهم من حديثى الرئيس اللذين يفصلهما أكثر قليلاً من مائة يوم أنه منشغل بالتطورات التى استجدت على مفهوم الأمن القومى المصرى من جانب، وأنه يسعى إلى إعادة تشخيص هذا المفهوم بما يستلزمه ذلك من صياغة مقدرات يمكنها النهوض بعبء التحديات الجديدة من جانب آخر.
فى عبارته الخاصة بأن مفهوم «الأمن القومى لمصر لا ينتهى عند حدودها السياسية» نفهم منها أن الدولة المصرية تعى وتدرك وتعمل على توسيع نطاق هذا المفهوم بشكل يغاير ما درجت عليه خلال نحو أربعة عقود أعقبت حرب أكتوبر المجيدة، وهو مفهوم ظل يراوح ما بين التدخلات الإقليمية المقتصدة والمحدودة من جانب، وما بين الكمون الاستراتيجى الإقليمى الذى بدا مهيمنًا على مدى العقدين الأخيرين على السياسة الخارجية المصرية من جانب آخر.
سيشرح لنا هذا التغير فى خطاب القيادة إزاء نطاق الأمن القومى المصرى ما شهدناه عندما رسم الرئيس خطوطًا حمراء للتدخل التركى فى ليبيا بشكل غيّر موازين الصراع فى تلك الدولة الشقيقة وصاغ له قواعد جديدة، وما نشهده من أنشطة مصرية تستهدف تأمين مقدرات أمننا القومى وصيانة مصالحنا فى البحر المتوسط، وما نعرفه عن جهود تستهدف تعزيز عمقنا الاستراتيجى الإفريقى على خلفية تحديات «سد النهضة».
وفى المقابل، فإن تعبير الرئيس الواضح عن أن مصر لا يمكن أن تُهزم بحرب من الخارج، إنما يؤكد من جهة على قدرة القوات المسلحة وجاهزيتها لصد أى هجوم خارجى؛ وهو أمر نعرف جميعًا أن الدولة أنفقت جهودًا وموارد ضخمة لكى تضمنه، بينما يشير من جهة أخرى إلى أن النيل من أمن مصر القومى يبقى احتمالًا واردًا عندما يتم الاستهداف فى الداخل.
وفى الوقت الذى تنهض فيه مقدرات أمننا القومى الراهنة بردع التهديدات الخارجية عبر جاهزيتها الاستراتيجية ومقوماتها الصلبة ودرجة توازنها مع مصادر التهديد المحتملة، فإن التهديدات التى تستهدف الداخل ما زالت تطرح أسئلة. فيما يتعلق بالتهديدات التى تستهدف الداخل تبرز مشكلة كبيرة لطالما أكد الرئيس السيسى على خطورتها ودعا إلى التصدى لها، وتتعلق تلك المشكلة ببساطة بزوال الخط الفاصل بين التكتيكى والاستراتيجى فى تلك التهديدات؛ بالنظر إلى أنها تستهدف الوعى الجمعى والتماسك الأهلى والثقة العمومية ومعدلات الرضا عن الأداء الوطنى، وتتجاوز نطاق الاستهداف المباشر الذى تقوم به قوة صلبة معادية، وأنها تستخدم خليطًا مدروسًا من الأفكار والتكنولوجيا التى لا تعوقها قيود عن تحقيق أهدافها.
بسبب طبيعة التهديدات التى تستهدف الداخل يجب أن تنشأ مقدرات أمن قومى خاصة للتصدى لها؛ وهى مقدرات سيزول الحد الفاصل بين الاستراتيجى والتكتيكى فيها بطبيعة الحال، وسيتطلب تطويرها حسًا ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا بمثل ما سيحتاج مقاربات أمنية.
ما طبيعة تلك المقدرات؟ وكيف نمتلكها؟ هذا موضوع مقال مقبل بإذن الله.