حسنًا فعل الرئيس عبدالفتاح السيسى فى اقتحامه عقبة عشوائيات البناء ونهب وتدمير ثروة مصر الاقتصادية الكبرى، وهى الأرض السوداء، (وهى سوداء لاحتوائها على المواد العضوية، ومن ثَمَّ فهى أرض خصبة)، وكانت مصر تكنى بـ«الدولة ذات التربة السوداء»- «كيم» أو «كمت Kemt» لأنها دولة كانت تنتج الغذاء لشعبها، بل للشعوب المجاورة. ومَن يقرأ فى تاريخ الحضارة يعرف أن كل الحضارات، من الحضارات المصرية القديمة حتى الصين والهند فى زمننا هذا، قد قامت على أربعة دعائم، هى:
1- إنتاج الغذاء. 2- إنتاج الكساء. 3- إنتاج السلاح الذى تدافع به الحضارة عن مبادئها وكيانها. ثم 4- إنتاج العلم وتطبيقاته. والعرب لا ينتجون حاليًا أيًا من هذه العناصر الأربعة، ومن ثَمَّ فهم واقفون أو قاعدون فى ذيل قائمة الأمم إلا قليلًا. هذه مقدمة لازمة لموضوع هذا المقال، وهو العشوائيات الأشد خطرًا على مصر من عشوائيات المبانى ونهب واستنزاف الثروة المعدنية، وعلى رأسها الأراضى.. إلخ، والعشوائيات الأشد خطرًا من هذا كله هى العشوائيات الثقافية أو العلمية، إن جاز التعبير، ذلك أن العَشْوَءَة شىء يتناقض تمامًا مع الثقافة والعلم. هناك أكثر من خمسين جامعة، وعدد لا يُحصى من المعاهد «العلمية» و«الأكاديميات» فى مصر. ورغم ذلك، فإننا، بكل الأسف، نقف خارج المنظومة العلمية والتكنولوجية العالمية المتسارعة.. لماذا؟؟
الإجابة فى تصورى تكمن فى العشوائيات العلمية، والمتمثلة فى صور شتى، على رأسها المقررات الدراسية فى الجامعات وما قبل المرحلة الجامعية، وهى مقررات لا تناسب العصر، ومأساة المذكرات الجامعية والكتاب الجامعى، وهى تجارة فاسدة، ولا يوجد مثيل لها فى الجامعات المتقدمة فى العالم. أضف إلى ذلك أسلوب الامتحانات، كما هو الحال فى الثانوية العامة ومنظومة الدراسات العليا ولجان ترقيات أعضاء هيئة التدريس فى الجامعات والهيئات العلمية، وما يسمى «اللجان القومية للعلوم» و.. و.. التابعة لإحدى الهيئات، التى تحمل اسمًا رنانًا للغاية، وهو الأكاديمية.. إلخ، وقد خبرت بعض هذه اللجان، وكنت عضوًا فى بعضها منذ عشرين عامًا.
وأتحدث هنا عن واحدة من أخطر هذه العشوائيات، وهى منظومة رسائل الماجستير والدكتوراة وأزمة البحث العلمى، وقد كتبت مقالة عن هذا الموضوع منذ سنوات عن مظاهرات حمَلة الماجستير والدكتوراة، الذين يطالبون بوظائف فى الجهاز الحكومى المتخم بالموظفين، وكل مَن يعرف شيئًا عن منظومة البحث العلمى ورسائل الماجستير والدكتوراة فى أغلب الدول المتقدمة يعرف أن مَن يتوصل فى دراساته العليا إلى إضافة علمية- وهذا هو الهدف من تلك الدراسات- سوف يجد مَن يتصل به من الهيئات العلمية والشركات العاملة فى مجالات الصناعة وأمثالها ليستعين به ويستفيد من إضافاته العلمية، بعكس ما هو حادث بالفعل فى مصر، حيث يوجد انفصال شبه تام بين منظومة البحث العلمى فى الجامعات والهيئات العلمية، وقطاع الصناعة، هذه حقيقة يعرفها الجميع، والعيب فى رأيى ليس فى قطاع الصناعة، وإنما فى منظومة البحث العلمى، الذى أصبح الهدف الرئيسى منه هو «الواجهة الاجتماعية» للأسف الشديد، وما يصاحب ذلك من فساد الكل يعرفه.. ولإصلاح الخلل فى هذه المنظومة، أقترح الآتى:
يتم تحكيم رسائل الماجستير والدكتوراة من خلال ثلاثة محكمين، اثنين منهم من الخارج (أوروبا، أمريكا، الصين، اليابان.. إلخ)، والثالث من الداخل، على ألّا يكون أى من المشرفين على الرسائل محكمًا، إذ كيف يكون المشرف على الرسالة محكمًا لها، كما هو المتبع فى مصر حاليًا؟! وهو السبب الرئيسى لضعف مستوى هذه الرسائل، والكل يعلم ذلك.أن تنتشر الإضافات العلمية لكل رسالة قبل إجازتها فى مجلة علمية محكمة عالميًا وليس من خلال المجلات التافهة الهادفة إلى الربح، والتى لها عناوين فى الخارج، ويعرفها كل أعضاء هيئة التدريس فى الجامعات، وهى مجلات لا قيمة لها. بحث مشكلة المذكرات الجامعية وقبل الجامعية والكتاب الجامعى الموجود فى كل الجامعات الحكومية.
بحث مشكلة الامتحانات، وعلى رأسها امتحانات الثانوية العامة، والتى تشكل عنوانًا صارخًا لتخلف منظومة التعليم فى مصر.
* أستاذ الجيولوجيا بالجامعة البريطانية