فى أواخر السبعينات، اخترع الباحثون فى الغرب تعبير «الصحوة الإسلامية» للدلالة على التحولات فى الدول العربية والإسلامية التى ارتبطت بتصاعد نفوذ تيار الإسلام السياسى. تعبير الصحوة الإسلامية عكس أيضا تعاطفا غربيا مع هذه الظاهرة، والنظر إليها على أنها تطور طبيعى لحركة المجتمعات الإسلامية، وأحد أشكال المعارضة المقبولة للنظم السياسية بها.
بالتأكيد جرت مياه كثيرة فى النهر منذ نهاية السبعينات، واليوم يجد الغرب أن هذه الصحوة الإسلامية وصلت لأراضيه، وتغلغلت فى مجتمعاته، واكتشف أنها ليست بالظاهرة الإيجابية التى تعاطف معها.
الخطاب الذى ألقاه الرئيس الفرنسى ماكرون فى بداية هذا الشهر (٢ أكتوبر) هو تعبير عن هذا التحول الغربى فى التعامل مع ظاهرة الإسلام السياسى. الخطاب تعرض لعدة انتقادات واعتبره البعض تمييزا ضد الإسلام والمسلمين، ومع ذلك فإن القراءة الكاملة للخطاب توضح أن ماكرون ركز على مشكلة داخلية فرنسية تتعلق بالتيار الإسلامى المتطرف فى بلاده، وطرح استراتيجية وخطة محددة للتعامل مع هذا الخطر، وهى خطة يمكن أن تستفيد الدول العربية والإسلامية من بعض الأفكار الواردة بها، لوجود تشابه كبير بين مظاهر التطرف فى المجتمعات الغربية والإسلامية.
ماكرون يدعو فى خطابه إلى «يقظة جمهورية» أو بعبارة أخرى صحوة للقيم المدنية التى تقوم عليها الجمهورية الفرنسية، ويرى أن المشكلة التى تواجه فرنسا هى ما سمّاه بالانفصالية الإسلامية، أى سعى البعض لاستخدام الإسلام للانفصال عن مبادئ وقيم الجمهورية، وإقامة نظام موازٍ يقوم على قيم مغايرة، وتطوير تنظيم مختلف للمجتمع، ومشكلة هذه الأيديولوجية (للإسلام السياسى) هى أنها تؤكد على أن قوانينها أعلى من قوانين الجمهورية، وهى انفصالية فى البداية، ولكن هدفها النهائى هو السيطرة على المجتمع بأكمله.
.. ماكرون عرض إستراتيجية شاملة للتعامل مع هذه الظاهرة تقوم على عدة محاور: المحور الأول يتضمن إجراءات تستهدف حياد جهاز الخدمة العامة ومنع استخدامه لنشر الفكر المتطرف، والثانى يتعلق بالجمعيات الأهلية، حيث تم استخدام الجمعيات التى تقدم أنشطة رياضية أو ثقافية أو فنية أو لغوية أو غيرها كستار لنشر الفكر المتطرف، لذا سيتم التوسع فى أسباب حل الجمعيات ليتضمن انتهاك المبادئ الجمهورية.
المحور الثالث يتعلق بالمدرسة، ووفقا لماكرون هى المكان التى تغرس فيه قيم المواطنة، وتدرب الضمائر حتى يصبح الأطفال مواطنين أحرارًا وعقلانيين قادرين على اختيار حياتهم. ويشير ماكرون إلى وجود آلاف الأطفال يتم تعليمهم بالمنزل، ويتلقى عدد منهم الفكر المتطرف من خلاله. لذا أعلن أنه اعتبارًا من بداية العام الدراسى ٢٠٢١، سيصبح التعليم إلزاميًا داخل المدرسة من سن ٣ سنوات، وزيادة الرقابة على المدارس لتحقيق التزامها بالمبادئ المدنية. أما المحور الرابع فيتعلق بما وصفه ماكرون ببناء إسلام التنوير فى فرنسا، ويرى أن أول خطوة فى هذا الاتجاه هى حماية إسلام فرنسا من التأثيرات الأجنبية، لذا قرر إنهاء نظام الأئمة المعارين من الخارج والبدء فى تدريب الأئمة بفرنسا. أما التأثير الآخر، الأكثر ضرراً وخطورة، فهو تأثير التمويل من الخارج، لذا سيتم تشديد الرقابة المالية على المساجد. كما أعلن ماكرون عن دعم المبادرات التى تحول فرنسا إلى مركز عالمى لدراسات الإسلام والحضارة الإسلامية.
باختصار، خطاب ماكرون، وبالرغم من وجاهة بعض الانتقادات التى وجهت له، وبالرغم من اختلاف السياق الفرنسى عن العربى والإسلامى، إلا أنه يقدم عددا من الأفكار الهامة لتحقيق «صحوة مدنية» لمواجهة الصحوة التى ضلت طريقها واتجهت نحو التطرف الدينى.
mkamal@feps.edu.eg