منذ ثمانية أعوام وفى نهاية يناير 2003، عندما كان مبارك يحرص على أن يلتقى بالكتاب والصحفيين كل عام فى افتتاح معرض القاهرة للكتاب كنت يومها أول المتحدثين ولم تكن أنياب الفساد قد نفذت إلى قلب مصر بهذه الشراسة، وكان السؤال: «من يقرأ الصحف القومية يعتقد أن مصر أعظم دولة فى العالم وأنها تعيش أزهى عصور الرخاء وأننا بلا مشاكل، ومن يقرأ صحف المعارضة يعتقد أننا على حافة بركان وأن تنظيم الفساد أقوى تنظيم فى مصر.. وبين هذه التناقضات الحادة من أين يستقى المواطن المعلومات الصحيحة لما يحدث فى مصر؟».
فنظر الرئيس إلى صفوت الشريف وقال ساخرا: «ما تشوف لنا يا صفوت الحزب ده شغال إزاى علشان تستفيدوا منه عندكم فى الحزب الوطنى»، ثم وجه كلامه لى قائلا: «اللى مش عاجبه صحف الحكومة يقرأ صحف المعارضة، واللى مش عاجبه المعارضة يقرأ صحف الحكومة، واللى مش عاجبه الاتنين يروح يرفع قضية»، ثم نظر إلى صفوت ثانية وقال: «الكلام ده لا يذاع»، ويبدو أن سؤالى هذا رفع سقف الأسئلة يومها، خاصة بعد هذه الإجابة، فتزايدت حدة الأسئلة فى هذا الاتجاه فتحدث مصطفى بكرى وهالة مصطفى وآخرون وتكهرب الجو وأنهى مبارك اللقاء بسرعة على غير العادة وغادر غاضبا، ومنذ ذلك التاريخ لم يعقد لقاءات مفتوحة مع الكتّاب، وإن كان بعد عامين قد عقد لقاءً فى مقر الرئاسة مع عدد محدود، وكان فاروق حسنى وسمير سرحان قد اختاراهم بعناية بعد استبعاد كل من كانوا يوجهون للرئيس أسئلة ذات طابع هجومى يمكن أن تغضبه أو تعكر صفو مزاجه، وكنت بالطبع أحد المستبعدين.
وكنّا يومها لا ندرك حجم الفساد الحقيقى، ولم نكن نعلم أن ما نراه من جبل الفساد ماهو إلا قمته وأن ما تخفيه المياه أكثر بكثير، ولم نكن نعرف أن مصر بأكملها غارقة فى وحل مستنقع هذا الفساد.
وما إن قامت الثورة وبدأت رموز الفساد الراسخة تتساقط حتى تنفسنا الصعداء، وبدأنا نستعيد الثقة بأنفسنا ونسترد وطننا العظيم من بين أنياب العصابة الظالمة التى كانت تغتصبه عنوة، وأقمنا الأفراح والليالى الملاح وكتبنا أغانى للثورة وتغنينا بمصر التى فى خاطرى وفى فمى، بعد أن خرجنا من هذا المستنقع الفاسد، وما إن بدأنا فى الاغتسال من عفونة هذا الفساد، إذ بنا نخرج من مستنقع الفساد لنغرق فى بحر الرمال المتحركة، فبعد أن سقط النقاب عن الوجوه الفاسدة، وتنفسنا نسيم الحرية النقى ولم يعد لدينا مبررات للتقاعس والخنوع- فإذا بالعقد ينفرط من جديد وبرزت كل القوى السياسية التى تدعى أنها صاحبة الفضل فى انتصار الثورة، ورحنا نتناحر ونتكالب على الاستيلاء على السلطة، وتحولنا جميعا (فجأة) إلى زعماء سياسيين ومنظرين وفقهاء دستوريين، وتركنا مصر تغرق فى بحر الرمال المتحركة:
ــ فعبود الزمر من المعتقل إلى مقعد المنظرين والحكماء والرؤساء المنتظرين على شاشات أهم البرامج الفضائية.
ــ وظهر من جديد الجهاديون والسلفيون والجماعات الإسلامية وازداد الإخوان المسلمون نهما للسلطة.
ــ وعادت الفتنة الطائفية تطل علينا بوجهها القبيح، وعادت المظاهرات الطائفية، وبعد أن كنا فى التحرير كلنا مصريون وتغنينا بالمسيحى الذى كان يصب الماء للمسلم ليتوضأ، أصبح هناك ميدان ماسبيرو للأقباط الغاضبين، وميدان التحرير للصراع الدامى بين المؤيدين للبقاء، والمعارضين للاعتصام.
ــ وبعد أن كان الثوار يرفعون شعار (سلمية، سلمية) أصبحنا كل يوم نرى مشاهد التشفى فى رؤساء تحرير الصحف القومية ورؤساء مجالس إدارات مؤسسات الدولة والعمال يضربونهم داخل مكاتبهم ويطاردونهم خارجها بزفة شعبية.
ــ وكلما التقيت بزميل من الزملاء يعزم علىَّ بحزب جديد وكأنه سجائر، فأضطر لأن أقول له: (شكرا.. لسه مالى استمارة لحزب تانى).
ــ أما الأحزاب القديمة التى ساندت أحمد عز فى الانتخابات التى قضت على مبارك وعصره، فهى الآن تؤيد بلا مواربة مبادرة الإخوان المسلمين.