«نحن لا ننتخب حكامنا، ولا نختارهم، ولكنهم يحطون على رؤوسنا كما المصيبة، وينزلون بنا كما الكارثة، ويجلسون على الكراسي كما المآسي، ولا فكاك منهم إلا بعمك المنقذ عزرائيل، نحن أكثر مخاليق الله إجراءً للانتخابات ونتائجها دائماً معروفة، ولدينا قوانين شتى الطوارئ، الاشتباه، التحفظ، وفى السجون مكان لكل مواطن ومن تضيق به السجون تتسع له المقابر»، هذه سطور من كتاب «حمار من الشرق»، للكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى، الذي نعيش هذه الأيام ذكرى رحيله.
عاش «السعدنى»، ككثيرين من أبناء جيله يناضل من أجل الحرية، ويدفع الثمن داخل المعتقلات، لكنه كان يسجن جسدا، ويبقى الحلم طليقا، وتبقى الابتسامة التي لا تغادر الوجه، إلا لوداع دمعة سقطت عمدا على ورقة تزخرفها كلمات تُضحك حتى البكاء، وأحيانًا، تُبكى حتى الضحك.
إنها الكتابة، الداء والدواء، التي لم تستطع سلطة أن تمنعه إياها، وكان دائما يردد: «سأعيش صحفيًا، وأموت صحفيًا، وسأحشر يوم القيامة في زمرة الصحفيين».
وشارك «السعدنى» -الذي ولد في 20 نوفمبر1927 بمحافظة المنوفية- في تحرير وتأسيس عدد كبير من الصحف والمجلات العربية في مصر وخارجها، وعمل سكرتير تحرير مجلة روزا ليوسف عام 1958، وفى 1960 عمل في مجلة «صباح الخير»، وبعد 7 سنوات أصبح رئيسًا لتحريرها ورفع توزيعها إلى معدلات غير مسبوقة، وتعرض للاعتقال في أكثر من عهد، حتى إنه في 1979 عمل رئيساً لتحرير مجلة 23 يوليو من منفاه بالعاصمة البريطانية لندن، وحققت المجلة معدلات توزيع مرتفعة في العالم العربي، وعاد إلى مصر من منفاه الاختياري في 1982 بعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات.
كان له عمود أسبوعي بجريدة «أخبار اليوم» بعنوان «أما بعد»، وكانت له صفحة في مجلة المصور بعنوان «على باب الله»، ثم اعتزل العمل الصحفي والحياة العامة في 2006 بعد أن تملك منه المرض، وله العديد من المؤلفات أشهرها «الولد الشقي»، و«الولد الشقي في المنفى»، و«أمريكا يا ويكا»، و«مصر من تانى»، ثم كتابه «حمار من الشرق» الذي كان هجائية ساخرة لأوضاعنا فى العالم العربي.
وإذا كانت هذه نبذة عن حياته العامة، فهناك الكثير مما لا نعرفه عن حياته الخاصة، ولذا حاولنا أن نتعرف عليها أكثر من ابنته الكبرى، هالة، المذيعة بقطاع الأخبار بالتليفزيون المصري، التي تحدث عنها في كتابه «الولد الشقي في المنفى» قائلا: «العبد لله قرر في عام 1961 أن يعالج هالة حتى تشفى بأمر ربى، ولو أدى الأمر إلى بيع ملابسي في سوق الجمعة، لأنني أشعر إزاءها بعقدة ذنب، لأنها مرضت وأنا في سجن الواحات عام 1959».
وروت «هالة» لـ«المصري اليوم»، القصة قائلة:«اصطحبني أبى في الستينيات إلى لندن، وكان عمري في ذاك الوقت 5 سنوات وأجريت لي جراحة في الحوض، ولم يكن معه من النقود ما يكفى، وعجز عن سداد نفقات المستشفى، ما تسبب في طول إقامتي به، وأذكر أنه كتب مقالاً بمجلة (صباح الخير)، قال فيه إنه سيلجأ للسفارة الإسرائيلية».
وأضافت: «أثناء هذه الفترة زارني الفنان الراحل عبد الحليم حافظ، وكان هناك خلاف بينهما، وعندما دخل والدي الحجرة ووجد كمية من اللعب سألني عن مصدرها، فقلت له المطرب اللي بيغنى، فظهرت على والدي علامات التأثر واتصل بـ(عبد الحليم) ليشكره».
وتابعت: «مر علينا 4 شهور لم تطلع الشمس فيها في لندن، وأصبت بالملل، وسألت والدي متى سأخرج من المستشفى»، فقال: «هتطلعى من المستشفى لما الشمس تطلع»، وانتظرت طلوع الشمس، وعندما سطعت، جاء والدي ووجدني قد أعددت حقائبي، فسألني: لماذا فعلت ذلك؟ فقلت له: «ألم تقل لي هتطلعى لما الشمس تطلع»، فاندهش لتذكري هذه القصة، وأخذني وذهبنا لعبد الحليم في منزله، وبمجرد أن رأيت السيدة علية أخته جريت إلى حضنها وشعرت بحنان الأم، ورفضت أن يحملني والدي للعودة بى إلى المستشفى، وترجاه عبد الحليم وأخته أن أجلس معهما، وقال والدي إنها بنت مزعجة وشقية، فقالت له «علية»: أنا لى في مصر بنت في نفس عمرها أرجوك اتركها معي، وعشت مع عبد الحليم أسبوعا من أجمل أيام عمري، أسهر معه حتى الرابعة والخامسة صباحاً».
وأكملت: «عدت إلى القاهرة، وكان من المفترض أن أسافر بعد ذلك للعلاج كل عامين أو ثلاثة، وفى عام1969 أخبر الطبيب والدي بأنه يخشى فشل العملية، ولا يستطيع الحكم الآن حيث إن عظامي تنمو ومع نموها تأخذ العظام شكلا آخر فتفسد العملية، ثم دخل والدي السجن في 1971، وتأجلت العملية 4 سنوات، وعندما أراد أن يسافر لعلاجي فوجئ بأن قرار علاجي على نفقة الدولة، الذي أصدره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ألغاه الرئيس السادات، فاضطر إلى استبدال معاشه وكان 500 جنيه، وذهبنا إلى لندن عام 74، وهناك حكي للطبيب عن ظروفه فتنازل الطبيب عن أجره، وقال له: «ادفع تكاليف المستشفى فقط، وكانت باهظة أيضاً، ولا أنسى يوم عاد من عند أحد جيراننا فى الفندق، وأنفه شديد الاحمرار ويضع على عينيه نظارة سوداء قاتمة، ما أوحى ببكاء شديد».
وقالت:«في المستشفى أجروا لي بعض التمرينات والاختبارات الطبية واستطعت بعدها المشى، ومن شدة فرحه حملني وأخذ يصيح (هالة بتمشى)، بعدها تقرر إجراء العملية، وكانت عمليتان وبعد العملية الأولى لم يصبح مع والدى نقود، وأثناء ذلك وصل خبر قرار حاكم الإمارات الراحل الشيخ زايد بتحمل نفقات علاجي، وبعد العملية استطعت المشي وعندما مشيت لأول مرة سجد ثم حضنني وبكى، وخرجنا من المستشفى إلى محال الأحذية، حيث لم أكن ألبس أحذية إنما كنت ارتدى حذاء حديديا وأسند ساقي بجهاز حديدي حتى أتمكن من السير، وبعد خروجي من المستشفى صدر قرار الحكومة الليبية بعلاجي على نفقتها، فقال لهم لقد شفيت هالة، وأعاد النقود للرئيس الليبي الراحل معمر القذافى؛ وكانت هذه بداية القطيعة بين والدي والقذافى».
وعن حالة والدتها أثناء سجن أبيها، قالت: كانت دائماً حزينة ومغيبة وعندما سُجن أبى عام 71، كانت تطبخ لنا ولا تتناول طعاما إلا الخبز والجبن». وقالت عن علاقته بأولاده: «بالرغم من أنه كان سى السيد، ويبدى آراءه في الملبس والخروج واختيار الأصدقاء، إلا أنه كان لا يجبرنا على اتخاذ القرارات المصيرية كاختيار الكلية أو الزوج».