بعد نجاح ثورة 30 يونيو فى اقتلاع الإخوان، وتولِّى الرئيس عدلى منصور المسؤولية، تشكلت حكومة جديدة، وتم تعيين محافظين جدد، كنت أحدهم، محافظًا للقاهرة، وكان ذلك فى 14 أغسطس، وهو يوم فض اعتصام رابعة، وهو الاعتصام الذى كان يمثل أكبر تحدٍّ لسلطة الدولة الجديدة فى ذلك الوقت، وكان على السلطة الجديدة مواجهة حالة الانفلات العام، التى سادت الشارع المصرى فى أعقاب 25 يناير 2011 وصولًا إلى يوليو 2013.
كانت القاهرة فى هذا الوقت مسرحًا لأكبر حالة انفلات واجهتها البلاد منذ عقود، وهى من مظاهر ما يُطلق عليه «سلوك ما بعد الثورات»، وتمثل ذلك فى انتشار المُخلَّفات فى الطرقات، واحتلال الباعة كل شوارع وسط المدينة تحديدًا، وبأعداد وصلت إلى عشرات الآلاف، وانطلاق المظاهرات والاعتصامات، وإغلاق الشوارع، وتحدِّى السلطات، والكتابات المسيئة لقيادات الدولة على الجدران.
وفى خصوص عشرات الآلاف من الباعة الجائلين فى وسط القاهرة، كانت قراءة المشهد تشير إلى أن هناك قيادات كبرى لهؤلاء، ثم قيادات وسطى، ثم ينتهى الأمر بالبائع الفعلى، وهناك مصالح مشتركة فيما بينهم، ما بين توفير الحماية للبائع الصغير، مقابل إتاوات يتم دفعها إلى القيادات الأعلى، التى كانت على الأرجح مرتبطة بمصالح سابقة مع الإخوان، مؤداها السيطرة على وسط القاهرة لمصلحة الطرفين، ومع ذهاب الإخوان، ولضمان استمرار ولاء هؤلاء للسلطة الجديدة، كان من المناسب عدم التصادم معهم بشكل حاد فى المراحل الأولى، وكان هذا واضحًا، وقيل لى ذلك فيما يخص الباعة الجائلين فى ميدان رمسيس تحديدًا، والذين كان لهم دور مساند للأمن فى إنهاء الاعتصام فى جامع الفتح فى ميدان رمسيس، بعدما ظل بؤرة للإخوان والسلفيين بعد فض اعتصام رابعة.
كنا نحاول إيجاد البديل لكل البائعين، قبل الحديث عن نقلهم من الأماكن التى يحتلونها، وجهزنا البديل الأول لبائعى وسط المدينة ليكون فى أرض الترجمان خلف مبنى الأهرام، والبديل الثانى لبائعى رمسيس ليكون فى أحمد حلمى على الناحية الأخرى من محطة السكك الحديدية، والبديل الثالث لبائعى حلوان فى منطقة على بُعد أقل من كيلومتر من محطة المترو، وتم إنفاق عشرات الملايين لتجهيز هذه المواقع وتدبير منافذ موحدة الشكل لهم جميعًا، وكانت تُوزَّع مجانًا، ومع ذلك كان هناك تذمر من جانبهم، ومن الإعلام كذلك، والذى ينتقد ظاهرة وجود الباعة الجائلين فى وسط المدينة، وينتقد فى نفس الوقت أى محاولة لنقلهم، وانتهى الأمر باحتفاظهم بما وزعناه عليهم من منافذ للبيع، وهجروا الأماكن التى خصصناها لهم، واختفوا وعادوا إلى حيث كانوا قبل يناير 2011.
الترتيبات الأمنية كانت تتم على أعلى مستوى سواء مع وزارة الداخلية ومدير أمن القاهرة ومن ورائه أجهزة «الداخلية» الأخرى، وكذلك قادة المنطقة العسكرية المركزية، وكثيرًا ما انتظرنا أسابيع حتى نحصل على الموافقات الأمنية وتقارير تقدير الموقف، وكثيرًا ما أوقفنا عمليات للإخلاء كانت سوف تتم فى الصباح الباكر بأوامر تأتينا من جهات أعلى فى منتصف الليالى وقبل التنفيذ بساعات قليلة.
أحد التحديات الكبرى فى هذا الوقت أيضًا كان يتمثل فى حركة كبرى للبناء المنفلت والمخالف بكل أنواعه، كانت الدولة مشغولة فى مواجهة الإرهاب، الذى كان يُخلِّف ضحايا من أبناء الشرطة والقوات المسلحة، وكان المخالفون يستغلون هذه الظروف فى التمادى ومخالفة القانون والبناء على الأراضى الزراعية، أو أملاك الدولة، أو خارج خطوط التنظيم، أو زيادة الارتفاعات، وكلها كانت مخالفات مستفزة، وكانت حالة الأمن غير مستقرة، وكل التقديرات الأمنية لا تشجع على الإقدام على أى تصدٍّ مباشر مع المخالفين، مما أدى إلى إرجاء أى تدخل لإزالة المخالفات التى حدثت أو لمنع الجديد منها مرات عديدة.
من ضمن ما قامت به المحافظة لمواجهة ثقافة الانفلات واستباحة أملاك الدولة ما حدث فى التعامل مع عشرات العمارات خلف المحكمة الدستورية، والتى تم بناؤها بدون ترخيص، وعلى أرض مِلْك الدولة، وتسلم مَن بناها أثمانها واختفوا، وكانت المعضلة أن ساكنى هذه الشقق السكنية، والواقفة على النيل، يُنظر إليهم فى القانون على أنهم حَسَنو النية ولم يقترفوا أى مخالفة، وكانت هذه الحجج لا تنطلى على شخص مثلى، وصممنا على إزالة كل هذه العمارات، وسط مطالبات بتقنين الأوضاع من قِبَل مَن استباحوا الملكية العامة، وللأسف أيضًا، فإن هذه الدعوات لقيت آذانًا فى البرامج الحوارية، ولم يزدنا ذلك إلا إصرارًا على إنفاذ القانون مهما كان الثمن.
كان التنسيق على أعلى مستوياته بين المنطقة المركزية العسكرية والهيئة الهندسية للقوات المسلحة ومديرية أمن القاهرة وباقى أجهزة الدولة، وجرت الاستعانة بخبراء التفجير من القوات المسلحة لنسف العمارات التى يزيد ارتفاعها على عشرة أدوار بالديناميت، وكانت هذه أولى حالات الإزالة بالديناميت، وكانت المتابعة اليومية للإعلام لهذا الأمر تعطى مؤشرًا قويًا على عودة هيبة الدولة، وكان ذلك رادعًا لمَن يفكر فى مخالفة مماثلة فى أماكن أخرى.
لم تكن العمارات خلف المحكمة الدستورية هى وحدها التى تم التصدى لها، حيث كانت هناك المئات من المخالفات الفجة فى أماكن مختلفة، أتذكر منها عمارات ضخمة من عشرة إلى عشرين طابقًا أمام القصر الجمهورى بالقبة، بُنيت بدون ترخيص، وتجاوزت الارتفاعات، وضم أصحابها أجزاء من الشوارع المحيطة بأرضهم، وبنوا عليها، وتمت إزالتها بالكامل بأساليب غير النسف بالديناميت لوجودها وسط مناطق سكنية كثيفة، وجرى نفس الأمر مع عمارات مماثلة فى المطرية وعين شمس والحلمية، تم بناؤها من قِبَل عائلات معروفة، وتُشيع أنها فوق القانون، وعلى أراضٍ تم ضم مساحات من الشوارع إليها، وكذلك تم ضم أراضٍ أخرى مِلْك الآثار المصرية، فى سوابق وجرأة لم يكن لها مثيل من قبل.
أتذكر ذلك الآن، وأنا أرى كافة أجهزة الدولة مهتمة بشكل كبير بمواجهة مخالفات البناء بشكل جذرى وشامل، وهو الأمر الذى يؤسِّس لمرحلة جديدة تنضبط فيها حركة البناء فى البلاد.