تاريخ الفلاحين على نمط ألف ليلة وليلة.. قراءة في رواية «تاريخ آخر للحزن» لـ أحمد صبري أبوالفتوح

كتب: بوابة الاخبار الأحد 13-09-2020 18:39

كتب: د. إبراهيم منصور*

«نَوَسا البحر» قرية مصرية في دلتا النيل، جنوبي مدينة المنصورة، مشاطئة للنهر. في خريف العام ١٩٤٩، تخرج من نوسا أسرة صغيرة من ثلاثة أفراد: الأب «جبريل اللّهْفة» حامل القرآن، وزوجه «ستيرة» وابنته الشابة الجميلة «سيادة» ثم لحق بهم «فتح الله حَلاويَة» السائس الأخرس، هو زوج سيادة على الورق، أما رجلها الذي تعيش تحت كنفه وهي عشيقته، قد استولى على جسدها تحت سطوة الإقطاع الزراعي، فهو صاحب العزة «عبدالباسط أرسلان» عضو مجلس النواب. تمشي سيادة بين والديها، بعد أن قطعوا مسافة «جلسوا إلى جانب مصرف صغير، هبطت ستيرة وجلبت ماءً غسلت به جروح ابنتها، ثم أخرجت جلبابا من بقجتها ووضعته فوق ظهرها، انبعثت من الجروح شرخات ألَم شلّت جسدها، ولما اعتادت الجلباب فوق ظهرها خفتت، وقاموا ليتابعوا المسير، فرفع فتح الله الصندوق فوق كتفه وانطلق معهم»

مرّت الأسرة بقريتي «نِقيطَة» ثم «سَلَكا» إلى أن وصلوا إلى قرية «مِنية سَندوب» وبرغم أن فتح الله قد قام وحده بعبء حمل الصندوق، إلا أن الأسرة توقفت عند «سندوب» التي ستصبح بعد سنوات حيّاً من أحياء مدينة المنصورة الكبيرة، قال الشيخ جبريل لستيرة: لن تقدر البنت على المشي أكثر من هذا، دعينا نعرّج على سندوب، هناك قرب جبّانتها يعيش أحد أصدقائي مع زوجته، سيدبّر لنا مكانا نرتاح فيه، ثم نقرر إلى أين ستكون وجهتنا

الصندوق الذي يحمله فتح الله حلاوية سائق «الكارِتّة» الأخرس، فيه «الرواية» التي سيحكيها لنا كاتبها أحمد صبري أبوالفتوح (مواليد ١٩٥٣) مستعينا بعدة رواة أهمهم وريثة الصندوق «معالي حلاوية» حفيدة «سيادة» و«فتح الله». أغلب أحداث الرواية ستحكيها «معالي» على أسماع «منجي عبدالباسط أرسلان» المحامي الناصري خريج سجون أنور السادات (حكم من ١٩٧٠- ١٩٨١) و«منجي» هذا من مواليد ٢٣ يوليو ١٩٥٠، فمن الراجح أن أمه «روح الفؤاد» قد حملت به بعد زواجها من أبيه مباشرة في رحلة عسل قصيرة في الإسكندرية، فحينما عاد عضو مجلس النواب إلى «دولتة» المعروفة باسم «وِسِيّة آل أرسلان» في «نوسا البحر» وما جاورها، وجد مصيبة في انتظاره، ابنه الوحيد حافظ، على ست بنات، أحب «روح الفؤاد منجي توبة» ابنة البنّاء البارع الذي جلبه أبوه إلى نوسا لكي يبني له مسجدا، ولأن «روح الفؤاد» بارعة الجمال، وهي لم تجاوز السادسة عشرة، وحافظ ابن سيد الوسية في الثانوية العامة، وأسرة «منجي توبة» ضيوف على أبيه، فلا مانع أن يمارس كيوبيد عمله، فيجمع بين القلبين من أول نظرة، على أن تتواصل العلاقة عن طريق الرسائل، تتبادل بين العاشقين، لكن الكارثة وقعت حين طمع الأب في الفتاة الجميلة، وقد أنفذ الأب عزمه، وتزوج الفتاة في سرايته في مدينة المنصورة، القريبة من نوسا، فلما عاد من رحلة أسبوع العسل في الإسكندرية، كان ابنه حافظ قد اختفى، هرب وترك رسائله إلى محبوبته عند خادمة أبيه وعشيقته «سيادة جبريل» وبعد البحث عن حافظ في كل ركن، وكل مدينة وكل موضع، في القاهرة والإسكندرية والمنصورة، جُنّ جنون الأب، فبينما هو في هياجه، دخل على زوجه أم حافظ «نظلة هانم» (أصل الاسم نازلي لكن المصريين يسهّلونه على أنفسهم) ومن بين دموع الهزيمة أخبرته بحقيقة الجريمة التي ارتكبها، صرخت نظلة دون أن تعبأ لوجود الباشكاتب: -أَسكَنْتَ (....) الاستراحة، فمشتْ بين ابنك وابنة البنّاء، التي لم تخترْ من نساء الدنيا غيرها لتتزوجها، وهذه هي النتيجة.

انطلق صاحب العزة الشيخ عبدالباسط أرسلان، من سراية نوسا إلى استراحة له وسط الحقول الواسعة لدولته، يحتفظ فيها بمعشوقته «سيادة جبريل» فدخل عليها ليواجهها بجريمة السعاية برسائل الحب، بين ابنه «حافظ عبدالباسط أرسلان» وبين «روح الفؤاد منجي توبة» التي هي الآن زوج الشيخ نفسه، فأنكرت «سيادة» هبَّ واقفا وقبض على عنقها: «أعرف أنك تكذبين يا بنت (....)، لن أدعك إلا أن تخبريني ما الذي كان بين ابني وهؤلاء الناس. ضربها ببوز حذائه في وجهها بعد أن سقطت على الأرض، وركلها بقدمه فحطّمت الركلة ضلوعها، لكنها لم تَبُحْ بشيء، فساقها إلى موضع تعذيب الفلاحين وعمّال الوِسيّة، وربطها إلى إحدى الحلقات المثبتة في جدار المِذْوَد، ثم عاد وفي يده سوطه القديم، أدارها إلى الطُّوالة، ومزّق الفستان، قال وهو يرفع السوط ليهوي به على ظهرها: ستعترفين أو تموتي»

كيف عذّبها بالسوط حتى تطايرت نتف اللحم من ظهرها؟ هل نسي أن عصر السُّخْرة والضرب بالكرباج قد انتهى؟ هل نسي أنه نائب في البرلمان عن حزب الوفد الشعبي؟ يقدم لنا الروائي ما يظن أنه تبرير لهذا الفعل القبيح، حين يقول إن السوط «قديم» ومكان تعذيب الفلاحين «قديم» كذلك، لكن يبدو أن الروائيين لا يُسألون عما يكتبون!!

لم تعترف «سيادة» وتحملت العذاب، حتى لم تعد تدري أهي حية أم ميتة، وكان عليها أن تغادر القرية والوسِيّة. واستحثت أسرتها قائلة لأمها «المجرم سيدفننا أحياء لو طلع الصبح ونحن هنا»

في لحظة فارقة ضاعت سيادة جبريل وضاع منها كل شىء، فقد استرد صاحب العزة هداياه لها ولأسرتها، ثمن استسلامها لنزواته غيرَ مختارة، وحتى المصوغات الذهبية التي كانت بين يديها، عندما ذهب أبوها ليبيعها في المنصورة عرف أنها زائفة، لم يبق لسيادة إذن إلا «صندوق» يشبه عرائس الماتريوشكا Matryoshka.

كلما فتحتَ عروسة منها خرجتْ لك منها واحدة جديدة، ولسوف تتناول حفيدتها «معالي» من الصندوق، وتخرح الحكايات كما كانت شهرزاد تصنع مع شهريار، وشهريار روايتنا هو المحامي «منجي أرسلان» الذي يحمل اسم جده لأمه بنّاء المساجد البارع، الذي تبادل أنفاس الحشيش وقطع الأفيون مع أبيه، ثم انتهى الأمر بزواج الشيخ من ابنة المعلم، ومنجي مصاب بداء «الملل» فهو حائر مثله مثل شهريار تماما، أما «معالي» التي تقوم بدور شهرزاد هذه الرواية، فهي شخصية مركّبة، هي مومس فاضلة، بل تشبه الملكة «سميراميس» Semiramis في بلاد ما بين النهرين، حيث كانت رقيقا بيعت في السوق، أثناء المملكة الآشورية الجديدة، كانت راجحة العقل بارعة الجمال، اتخذها مستشار الملك زوجة، وصار له منها ولدان، ثم تزوجها الملك وولدت له ولدا.

أما معالي، فقد سعت إلى المحامي منجي أرسلان في العام ٢٠١٦، تحت ضغط الحاجة، كانت زوجة لأمين شرطة منحرف، مفصول من عمله، هرب وترك لها بنتين «منة الله» و«جويرية» وترك لها ديونا لا ذنب لها فيها.

يؤرخ لنا المحامي المحترف، كاتب الرواية أحمد صبري أبوالفتوح، على نحو فريد، التلاعب القانوني المزري الذي تقع بسببه النساء تحت طائلة القانون، حيث يوقّعن على «وصولات الأمانة» ثم يكون مصيرهن السجن، هؤلاء هن «الغارمات» اللائي تمتلئ بهن السجون في مصر خلال سنوات هذا القرن الجديد.

وإذاً، فمعالي حلاوية، عاملة جنس محترفة، وهي مطلّقة، وأم لبنتين، لكنها تركت الدعارة عن تصميم وجاءت تنشد الحياة النظيفة لتربي ابنتيها بالحلال، وقع في يدها السيد منجي ابن السادة الذين عذبوا أهلها في عهد سبق، لكنها لا تحقد عليه وهو لا يحتقرها قط، كيف يحتقرها وأمه ابنة بنّاء؟ بل الأهم أنه متمرد ترك ثروة أبيه وأجداده، ليلحق بعدوهم اللدود جمال عبدالناصر (١٩١٨- ١٩٧٠) فيؤمن بثورته ويحترف السياسة، ويُسجن -بعد موت عبدالناصر وضياع اشتراكيته- ثلاث مرات، لكنه لا يفقد ثروة أسرته، بله ما بقي منها، بعد الإصلاح الزراعي ثم التأميم، وقد كانت لهم عقارات مهمة لم تُؤمّم، كما سمح له عدوه السادات باسترداد أرض مضرب أرز كانت الأسرة العتيدة تملكه قديما، وهي أرض صالحة للمباني أي أنها ثروة قديمة مستردة.

تعود معالي بالمحامي الكهل البالغ من العمر ٦٦ عاما إلى سراية نوسا، لكي تحكي له حكاية أهله مع أهلها، هو محامٍ مكتبه في عمارة الإيموبيليا -الأكثر شهرة من عمارة يعقوبيان- في القاهرة، أما هي فمجرد امرأة فقيرة لم تبلغ الثلاثين، ولا تحمل من المؤهلات الدراسية سوى دبلوم الفنيين التجاريين، درست سنتين بعد الثانوية العامة، وتعمل بإرادتها خادمة في البيوت، برغم ذلك فهي أمامنا، كما يقدمها السرد، حكيمة، تحفظ من شعر ابن عروس، وتلقي بالحكمة تلو الحكمة، ولا يرد على لسانها إلا كل خطاب متماسك بليغ، لذلك فقد استسلم لها الرجل، ومات في النهاية بين يديها وجنينٌ من صلبه في بطنها.

هل رواية «تاريخ آخر للحزن» رواية عن العشق والهوى، والسرد البارع حول أحوال الناس والمجتمع في النصف الثاني من القرن العشرين؟ وفي الخمسة عشر عاما الأولى من القرن الحادي والعشرين؟ أم أنها رواية عن أحزان الفلاحين تحت سياط مصر الخديوية، ثم سياط الملكية الدستورية قبل ١٩٥٢؟ أم أنها رواية من نوع الواقعية السحرية ؟

إن العفاريت، وأرواح بعض المماليك، تهيم في سراية نوسا، والسائس الأخرس فتح الله حلاوية يعيش قصة عشق مع المهرة التي تجر «الكارتة»، وواحد من نسل تلك الأسرة، أسرة أرسلان هو كائن «أميبي» أسمته أسرته «عبدالمولى» لا يتكلم ولا يرى لكنه يأكل الطعام، ويضرب بيديه وينهش كل ما تطوله يداه، فتخبئه الأسرة في قبو، وحينما يموت يعجز شقيقه صاحب العزة عن دفنه إلا بالاستعانة بعشرات العمال ومقطورتين يجرهما جرار زراعي، ومع ذلك فقد قام العمال بهدم مقدمة المقبرة وتقطيع الجثة الهائلة حتى يمكنهم إدخال أجزائها في المقبرة.

تبدأ الرواية بتصوير بارع لما يسميه الراوي «أورطة التأديب» التي وصلت إلى نوسا عام ١٨٨٢ بقيادة بريجادير في الجيش الإنجليز الظافر في موقعة «التل الكبير» بعد هزيمة جيش أحمد عرابي (١٨٤١- ١٩١١) حيث يحمل البريجادير كشفا بأسماء المتطوعين في جيش عرابي، ومن نوسا خرج عدد منهم، أحدهم اسمه «فتح الله» ترك ابنه «منصور» طفلا رضيعا، وسعى مع عرابي من أجل حرية وطنه، لن يعود فتح الله، بل إن زوجه حلاوية ستموت تحت الجَلْد بسياط الأورطة الإنجليزية هي والشيخ حسنين اللهفة، تاركا رضيعا آخر هو «معوّض» فداءً لأبناء القرية الذين اتخذوا من قبْوٍ في سراية نوسا وِجَاءً لهم من بطش تلك الأورطة- الجدة «نِحْمِدُه» ستربي كلا من «منصور» و«معوض» ابني شهيدي الاحتلال الانجليزي، أحدهما هو جدُّ الراوية معالي، لذلك قرب نهاية الرواية -البالغة ٤٠٠ صفحة، ولا تخلو من الأخطاء المطبعية- سوف نسمع صوت تلك البطلة القديمة «سيادة جبريل» تقول لمعذّبها عبدالباسط أرسلان: «كنتُ أعرف أن نهايتي معك لن تكون إلا هكذا، تربطني إلى الطُّوالة، وتدير ظهري كما أدار البريجادير القديم ظهر جدي حسنين اللهفة وظهر حلاوية، ما تفعله بي رأيته بعيني مئات المرات، لكنني بريئة كما كانا بريئين».

إن من يقرأ مثل هذا الحوار البارع، والمتكرر كثيرا في الرواية، على ألسنة الفلاحات وعاملات البيوت، أو حتى هوانم السرايات، يربط التاريخ بالحاضر، ويرد الإعجاز على الصدور، قد يرى أن كاتبها «عدو الواقعية اللدود» لكننا نعلم أن الواقعية تتعدد وتتسع، وواقعية هذا الكاتب في رواية «تاريخ آخر للحزن» وفيّة لواقعية أستاذه نجيب محفوظ، لذلك نقول هذه رواية حديثة، بما فيها من تكسير للزمن وتقطيعه، ما يشكل صعوبات تواجه القارىء غير المتمرس، لكن الرواية ممتعة بلغتها، وقد تختلف الآراء حول بنائها الفني، لكنها تقرّ ببراعة كاتبها، أحمد صبري ابو الفتوح، صاحب «ملحمة السراسوة»، بعد أن بنى لنفسه مكانة المؤرخ الأدبي للفلاحين من دون منازع.

* أستاذ النقد والأدب الحديث في جامعة دمياط.