الصحافة.. فكرة غائبة

د. ياسر عبد العزيز الأحد 13-09-2020 01:04

لقد قيل الكثير عن أهمية الصحافة على مر العصور، ومع ذلك فإن قولاً منسوبًا إلى الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية توماس جيفرسون سيتكرر كثيراً كلما جرى الحديث عن الصحافة وحرياتها، إذ قال هذا الأخير، فى العام 1787: «لو أننى خُيّرت بين أن تكون لدينا حكومة بدون صحف، أو صحف بدون حكومة، لما ترددت لحظة فى تفضيل الخيار الأخير».

يمثل ذلك موقفاً حاسماً يقدم دعماً مطلقاً لحرية الصحافة، ومع ذلك فإننى لا أميل كثيراً لتبنيه أو البناء عليه، إذ يصعب جداً تخيل دولة تعيش من دون حكومة، ويصعب جداً أن تُحكم دولة بوسائل الإعلام. وفى المقابل، أجد أن صحفياً مخضرماً هو بيل موير، الذى ترأس أيضاً المركز الأمريكى للإعلام والديمقراطية، ناجحاً فى مقاربته لموضوع حرية الصحافة بشكل أقل رومانسية وأكثر تعبيراً عن طبيعة المهنة ومقتضياتها، إذ يرى أن «حرية الصحافة هى أن تعلن بكل أريحية الاستنتاج الذى قادتك إليه الأدلة فى موضوع يقع ضمن اهتمامات الجمهور».

أعتقد أن ذلك تأسيس مُركّز بما يكفى ومتكامل بما يليق بوصف قضية جدلية لطالما شغلت الناس واعتراها الخلاف، إذ إن حرية الصحافة هنا مستحقة ومصونة، من جانب، وهى مرتبطة بضرورة البرهنة على صدق ما يرد عبرها وإثباته من خلال جهد منظم يبذله الصحفى وتسهر عليه وسيلة الإعلام، بما يخدم انشغالات جمهورها، من جانب آخر.

لكن فى الميدان، لا تكون الوقائع على هذا القدر من البيان الناصع والحسم اللطيف، فثمة حالات وقضايا تتضارب فيها الرؤى، وتبرز خلالها الحجج المتناقضة للأطراف المنخرطة فى الصراعات، وتتصادم الإفادات، بل إن الوثائق أحياناً تكذب أو يتم التلاعب بدلالاتها، إلى حد أن الصحفى المُجيد نفسه يرتبك، ومهما كان متخصصاً فى موضوعه أو خبيراً بتطوراته، فإن قدرته على إدراك «استنتاج» مستند إلى أدلة تتضاءل.

ماذا يفعل الصحفى حيال تلك القضايا إذن؟ كيف تواجه الصحافة هذا الغموض والالتباس؟ كيف تحسم التضارب؟

تبرز هنا أهمية الموضوعية فى العمل الصحفى كمقاربة مطلوبة وضرورية، ومن حسن الحظ أن الموضوعية ليست وصفاً ترفياً أو معنى وهمياً فى العمل الصحفى، بل هى معيار وقيمة، وثمة آليات واضحة لإدراكها أو الاقتراب منها بالدرجة التى تخدم مصالح الجمهور وتبقيه فى النور.

يتطلب الأمر لإنجاز عمل صحفى موضوعى يلقى الضوء على قضية جدلية تشهد تضارب إرادات وتنازع مصالح أن يكون الصحفى دقيقاً، ومحايداً، ومتوازناً، وملماً بالموضوع، وأن يعمل على إيراد وجهات نظر الأطراف ذات المصلحة وذات الصلة بالقضية الخاضعة للمعالجة، وأن يمنح تلك الأطراف مساحات متكافئة لعرض مواقفها، وألا ينسى أن يورد أيضاً رأى الخبرة المستقلة التى لا ترتبط بمصالح مع أى من الأطراف المتنازعة.

هل يمكن إيجاد قصص صحفية تتحلى بهذا القدر من المهنية والموضوعية؟ الإجابة نعم. وهل هذا سهل؟ الإجابة: لا. وهل هذه القصص تستحق أن نعمل من أجل إيجادها؟ الإجابة: بكل تأكيد.

فى الآونة الأخيرة انشغلنا فى مصر بقضايا مثل «قانون التصالح على مخالفات البناء»، و«انتخابات مجلس الشيوخ»، و«قضية فيرمونت»، وغيرها، وقد بدا لافتاً أن منظومتنا الصحفية، الداخلية والخارجية، لم تمارس دورها بمهنية فى معالجة هذه القضايا، إذ تم الاكتفاء عادة بعرض جانب واحد من القضية، أو توصيل صوت طرف من الأطراف، من دون استكمال المقاربة الموضوعية ومن دون الاستناد إلى أدلة.

نحتاج إلى مقاربة صحفية للقضايا الخلافية تنزع نحو الموضوعية، وإلا بقينا تحت تأثير دعايات لأطراف متضاربة تنقلها الصحافة بشغف وكثافة بينما تغيب عن دورها الأهم.