يومك حلو؟

بسمة العوفي الجمعة 11-09-2020 10:18

في طابور طويل بالمطار، وقفت أنتظر لختم جواز السفر. عندما جاء دوري أعطيت الضابط الجواز وابتسمت ابتسامة خفيفة، فحدّق في وجهي ثم في الجواز أكثر من مرة، ثم ختم الأوراق وأعطاني إياه، وقال Have a good day (احظ بيوم طيب). قلت في نفسي ”هذه أمنية لطيفة، لم أسمعها في أي مطار من قبل“، فجاوبته ”شكرًا لك.. وأنت أيضًا“ وسحبت حقيبتي وخرجت من المطار.

أخذت سيارة أجرة من مطار ”دالاس“ في واشنطن إلى قلب العاصمة الأميركية. كان هذا يومي الأول في أميركا. الجو غائم مع بعض البرودة، وكل شيء يبدو نظيفًا وجميلًا وبسيطًا. هذه هي أميركا، وهكذا بدأت حياتي ورحلتي في السنتين اللاحقتين حتى الآن.

بمجرد وصولي إلى وجهتي، ساعدني سائق التاكسي في إنزال الحقائب، وقال وهو يغادر (احظ بيوم طيب)، فاستغربت، لم يقل لي أبدًا أي سائق تاكسي من قبل أن أحظى بيوم طيب. في القاهرة حيث كبرت، يقول سائق التاكسي عادة (العفو يا أوستاذذذذذة)، أو (مفيش فكة يا أبلة)، أو يغادر مسرعًا ولا يقول أي شيء، أو يطردك من السيارة تقريبًا بعد خناقة على الأجرة والعداد، أو بحثًا عن زبون جديد. توقفت قليلًا أفكر، هل يعمل سائق التاكسي مع المطار؟ هل جملة ”احظ بيوم طيب“ هذه مجرد جملة يتداولها العاملون في هذا المكان فقط؟ اعتبرتها مجرد صدفة، أو أمنيات لطيفة لشخص وصل للتو إلى هذا البلد.

بعد هذا اليوم، سمعت هذه الجملة في كل مكان تقريبًا وفي كل تعامل مع أي شخص. من الجار الذي ضغط على زر المصعد، إلى المحاسب في السوبر ماركت، والسيدة التي مرّت بجانبي هي وكلبها، والممرضة التي أعطتني الدواء في المستشفى، وحارس الأمن في مبنى حكومي فخم، لا يختلف الأمر إن كانت السابعة صباحًا أو العاشرة ليلًا، أو إن كنت في وسط المدينة أو ضواحيها. سمعتها من كل شخص التقيته في أي مكان وأي مناسبة وأي وقت.

(احظ بيوم طيب) هي التحية الأميركية الألطف والأغرب بالنسبة لي. وفي كل مرة أسمعها، تدغدغ شيئًا ما في عقلي. غريبين جدًا هؤلاء الأميركان يا أخي! يريدون يومًا طيبًا كل يوم؟ كل يوم كل يوم؟! أتذكر عادل إمام في ”الواد سيد الشغال“ وهو يقول (ما شاء الله.. انتوا بتفطروا كل يوم؟!) وأفكر: وماذا عن الأيام السيئة؟ ولماذا يتمنون أيامًا طيبة لأشخاص لا يعرفونهم؟

منذ انتقلت للعيش في أميركا وأنا أحاول أن أفهم هذا المجتمع بعيدًا عن الصور النمطية التي عبأت دماغي من أفلام هوليوود ونشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي. وكان انطباعي الأول أن الأميركان شعب بسيط جدًا، بسيط حقيقي، لا يهتم بالمظاهر ولا بالآخرين، لا يهمه إذا كنت تلبس قلادة ذهبية فخمة أو بنطلون جينز ممزق، لا يهمه شكلك ولا ما ترتديه ولا طبقتك الاجتماعية، كل هذا يندرج هنا تحت بند الحرية الشخصية وخصوصية الآخر التي يحترمها الكل، ولا يتدخل أحد فيما لا يعنيه إلا عندما تسمح له.

كانت مفاجأتي في أميركا وما زالت، هي اللطف في التعامل مع الغرباء- وأنا هنا لا أمدح أو أنبهر بالغرب كما تتوقع- ولكني أتكلم عن مبدأ إنساني اعتقدت فيه لسنوات كما اعتقدت في الغول والعنقاء والخل الوفي، وهو أن تكون لطيفًا مع الآخرين بلا سبب أو هدف معين. الابتسامة في وجه المارة، وإلقاء التحية بصوت خافت، لا لشيء إلا للمودّة. وهي قيمة موجودة في بلادنا، ربما شغلتنا عنها مفرمة الحياة اليومية والزحام والركض المتواصل بحثًا عن لقمة العيش. لا أعرف إن كانت هذه الجملة دخيلة على واشنطن لأن أغلبها غرباء ومهاجرين وطلاب ودبلوماسيين وسياسيين من كل الجنسيات، أم أنها عادة أميركية أصيلة، ولكن اللطيف أن الكل يقولها، والكل يتمنى لك يومًا طيبًا وإن لم يدركها أو يعنيها حرفيًا.

ولأن عمر الإنسان ما هو إلا بضعة أيام، فإن ”احظ بيوم طيب“ لم تعد مجرد أمنية من الغرباء أو مجاملة لطيفة، بل منهجًا للحياة. في الأيام الجيدة أمتن لهذه الطيبة العابرة، وأحاول أن أجعل يومي أجمل، وفي الأيام السيئة أتمنى أن تتحقق أمنية الغريب، وأن يتحول يومي من سيء إلى طيب. وأحيانًا أفكر ”ماذا يمكنني أن أفعل لكي أجعل يومي طيبًا؟ أو يوم الآخرين أطيب؟“. أتفقد أصدقائي برسائل قصيرة ”يومك حلو؟“ وإذا لم يكن جميلًا، كيف نجعله جميلًا؟

الأيام الطيبة تمر، والسيئة كذلك. وجميعنا نركض في عجلاتنا الخاصة كفئران محبوسة في حلقات أكل العيش وملاحقة الأحلام والطموحات. فلا يضر ولا يكلّف إن كنت لطيفًا إلى من يكافح جوارك، فقد تكون هذه اللفتة الطيبة هي أجمل ما في يومه، قد تخفف ألمًا أو ترسم ابتسامة ما، وقد تعطيه بعضًا من الأمل في يوم أفضل. نعرف جميعنا ثمن الأيام السيئة، والوقت الثقيل على صدورنا، والأيام التي لا نريد أو نتمنى أن نعيشها، والأيام التي نتمنى أن نعيشها ونكررها أكثر من مرة.

ما زلت أتذكر يومي الأول في أميركا جيدًا، وأتذكره اليوم أكثر من أي وقت مضى، فبعد أكثر من عامين في واشنطن، اكتشفت أنني أصبحت أقولها أيضًا، للعابرين والمارة والجيران وكل شخص ألتقيه في يومي، وأتمناها من قلبي لنفسي وللآخرين. حتى في عصر الكورونا والوجوه المخفية خلف الكمامات والمسافات الاجتماعية، ما زال بإمكاننا رؤية ابتسامة الأعين وسماع الأمنيات الطيبة. لذلك يا صديقي، اسمح لي في مقالي الأول عن حياتي في أميركا، أن أتمنى لك يومًا طيبًا، وأن أطمئن عليك بسؤال.. «يومك حلو؟».

*كاتبة وصحفية مقيمة بواشنطن