الأيديولوجيا فى التكنولوجيا

منى أبوسنة الثلاثاء 08-09-2020 02:43

فى مقال سابق بعنوان «هل تتقدم الحضارة؟» المنشور بجريدة المصرى اليوم بتاريخ 31-8-2020 طرحت الجزء الأول من حوارى مع المفكر المستقبلى الأمريكى الشهير (ألفن توفلر) فى العام 1998. وكان محور الجزء الأول من الحوار هو محاولة للبحث عن إجابة لمدى تقدم الحضارة الإنسانية من زاوية مستقبلية تطرح فهما مستقبليا لتاريخ الحضارة الإنسانية، كل ذلك فى إطار رؤية ألفن توفلر للتاريخ.

ومن الجدير بالذكر أن ألفن توفلر هو من مؤسسى ورواد علم المستقبليات وكان له الفضل فى ترويج علوم المستقبل وجعلها جماهيرية بعد أن نشر له كتاب «صدمة المستقبل 1970» وكان قد نشره على هيئة مقال بعنوان «المستقبل كأسلوب حياة» فى مجلة العلوم الاجتماعية (هورايزون) عام 1965. وقد طبع ووزع من الكتاب 6 ملايين نسخة.

وفى الجزء الثانى من الحوار أطرح سؤالا آخر محوريا يدور حول العلاقة بين الأيديولوجيا السياسية والتكنولوجيا العلمية، انطلاقا مما عرف وشاع فى الستينيات من القرن الماضى عما أطلق عليه «نفى الأيديولوجيا» أو «نهاية الأيديولوجيا» على أثر ثورة الشباب أو حركة الشباب التى اندلعت فى عام 1968 فى جامعة السوربون بباريس ثم امتدت وانتشرت فى جميع جامعات أوروبا بدون استثناء. وكان الطلاب الثوار يحملون لافتة لصورة الفيلسوف الألمانى (هربرت ماركوزا) وتحتها عنوان كتابه «إنسان البعد الواحد» وكان يقصد بذلك الإنسان عندما يتجمد تفكيره ويمتنع عن التطور بسبب الأيديولوجيا أى الاعتقاد الأحادى فى فكره، استنادا إلى تعريف كارل ماركس للأيدولوجيا «وعى زائف».

وبناء على ذلك لا يتبقى للإنسان سوى التكنولوجيا. ولكن شباب الثورة رفضوا استبدال الأيديولوجيا بالتكنولوجيا فى التحكم والسيطرة على الإنسان والمجتمع. ومن ثم فقد طالبوا بالعودة إلى الطبيعة خارج المجتمع وخارج أى أنظمة سياسية واستبدال العقل والتفكير بالأسطورة.

وذلك كان، فى تقديرى، بداية الطريق نحو بزوغ وانتشار الأصوليات الدينية والذى تبلور مع مطلع السبعينيات من القرن العشرين. وقد طرحت فكرتى فى مقال بحثى مطول نشر فى مجلة المنار عام 1987 بعنوان «مايو 1968 طريق إلى الأصولية» أى قبل لقائى بتوفلر من عام.

وأنا هنا فى الجزء الثانى من حوارى معه أحاول أن أتلمس مدى فهمه وتحليله لظاهرة الأصوليات الدينية من حيث تأثيرها على مستقبل الحضارة، وإلى أى حد يرى أن الأيديولوجيا انتهت من العالم أم هى كامنة فى التكنولوجيا التى يتبناها تيار الأصولية الدينية المدعم بالإرهاب المسلح، وهذه قضية مرتبطة ارتباطا وثيقا بإشكالية نفى الأيدلوجيا أو نهايتها.

س- إن التجديد هو ثمرة الأزمة، فالأزمة تنطوى على تناقض وتستلزم رؤية مستقبلية لرفع التناقض، وحيث إن لكم رؤية مستقبلية.. فكيف تصفون التناقض الراهن.. وما هى رؤيتكم المستقبلية لتجاوز هذا التناقض؟

ج- إن التناقض الأعظم هو التناقض بين انحلال الحضارة الصناعية وبزوغ ما نسميه حضارة «الموجة الثالثة»، ويسمونها فى الاتحاد السوفيتى «الثورة العلمية والتكنولوجية»، ويسميها آخرون «ما بعد الثورة الصناعية، ولكن الصراع فى جوهره هو صراع أيديولوجى، لأن عقلية البشر محكومة بكيفية الممارسة فى العالم. فى كتاب «الموجة الثالثة» استخدم لفظ (الواقع- الصناعى)، والفاصل بين لفظی الواقع» و«الصناعی» نوع من التلاعب على ازدواجية معنى العصر الصناعى، وما أريد إثباته هو أن كل حضارة فى طياتها مسلمات معينة، فمع الثورة الصناعية أى عصر أنابيب الدخان (مداخن المصانع) أى عصر المصنع، بزغت جملة مبادئ هى: الطبيعة والتقدم والزمن، وهى مبادئ مشتركة بين الرأسمالية والاشتراكية، وهذا هو التشابه بين النظامين. وما يحدث الآن هو أن هذه المبادئ موضع تساؤل على أنحاء شتی. أولا: نحن نلمح هجوما على الفكرة التقليدية عن التقدم من حيث إنه يسير فى خط مستقيم. ونلمح إلى فكرة أن مهمة البشر استغلال الطبيعة وليس التعاطف معها. ثم إننا نلمح هجوما على التنظيمات البشرية من حيث إنها مؤسسات ناشئة من هذه المسلمات. ومن بين هذه المسلمات ثمة مسلمة محورية، وهى فكرة أن المصنع هو النموذج الفعال لكل المؤسسات، وأن البيروقراطية هى المصانع التى تتخذ القرارات وتؤدى الخدمات، وأن المدارس مصانع، والمستشفيات تدار على أنها مانع بما تنطوى عليه من تقسيم العمل والتنظيمات الهرمية، وإذا ما تجاوزنا المرحلة الصناعية ومرحلة هيمنة المجتمع الصناعى رأينا صورا بديلة لإدارة التنظيمات والمؤسسات والأبنية، وكذلك تنظيم المعرفة الإنسانية، وهو التنظيم العمدة، فثمة تغيير فى تنظيم المعرفة، أى الانتقال من تنظيم المعرفة فى القرن التاسع عشر الذى يستند إلى التجزئة والتخصص إلى تناولات ترکيبية وأكثر تعقيدا، وثمة تغيير جوهرى آخر حادث الآن فى بنية المعرفة وهو موت مسلمة الثبات، فالمسلمة القديمة تفيد بأننا عندما نقتنص معرفة ما فإنها تظل هكذا إلى مالا نهاية، فى حين سرعة التغيير.

س-.. وهل هذا هو الحادث الآن؟

ج- بالضبط. فليس من المرغوب إذن أن نكتفى بدراسة حالات الاتزان ونهمل دراسة حالات عدم الاتزان، وهذا هو ما يقوله لنا بریجوجین، وهذا هو مغزى نظريته عن عدم الاتزان علينا أن نتجه بأبصارنا نحو نقاط التغيير، لأنها تكشف لنا عن طبيعة عمليات التغيير؟ إن بریجوجین واحد من بین كثيرين حاولوا تأسيس نظرية عن الفوضى أى إقرار أهمية عدم الاستقرار..

والسؤال إذن: لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بعدم الاستقرار من قبل العلماء بعد أن استغرق اهتمامهم بالاستقرار مدة ثلاثمائة عام؟

ج- أعتقد أن سبب ذلك مردود إلى الهزة التى أصابت الثقافة والاقتصاد والمضمون الاجتماعى للعلم، والعلم لا يتطور أبدا بمعزل عن البيئة الثقافية، وعندما تهتز الأنسقة فى فترات الاضطراب يبدأ البشر فى التفكير فى التغيير والبحث عن نماذج للتغيير، ولهذا فأنا أعتقد أن ثمة علاقة بين البحث عن نماذج جديدة للتغيير والاهتمام الحديث بنظرية بريجوجين عن الفوضى، وأنا شخصيا لم أندهش من أننا قد اكتشفنا فجأة نظريات الاضطراب.

س- هل تعتقد أن هذا الاكتشاف الجديد يسهم فى مزيد من تحكم الإنسان فى التغيير؟

ج- فى تقديرى أننا لا نتحكم تحكما كاملا ولكن قدرتنا على التحكم تزداد، فمثلا هناك نموذج بيولوجى لجسم الإنسان، فإذا كنت تشعر بألم فى جنبك وتتجاهله فإنه قد يتطور ويتحول إلى ألم فى المصران الأعور، ولكنك إذا فهمت أن نسقك هو نسق بيولوجى، أجزاؤه فى علاقات متبادلة، فإنك قد تنتبه إلى هذا الألم وتذهب إلى الطبيب فيستأصل مصرانك الأعور، وبذلك تواصل الحياة فى حين أنك إذا تجاهلت الألم فإنك قد تموت.