إذا أردنا البحث عن إجابة لهذا السؤال، علينا أن نعود بالزمن إلى نحو ثلاثين عاما، وبالتحديد إلى عام 1988. إن الدلالة التاريخية لهذا العام تجلت فى حادثتى سقوط حائط برلين عام 1990، ثم سقوط الاتحاد السوفيتى عام 1991. وهما الدلالة الرمزية لتلك الطفرة التاريخية. أما الدلالة الحضارية لتلك المرحلة التى يرمز إليها العام 1988، وهى أن العالم كان يقترب من نهاية قرن،هو القرن العشرين، ويتطلع إلى قرن جديد يحمل فى طياته طفرة حضارية غير مسبوقة. تتجاوز المراحل التى مرت بها الحضارة الإنسانية، وهى عصر الزراعة الذى دام نحو عشرة آلاف عام، ثم عصر الصناعة الذى لم يدم سوى مائتى عام، ثم عصر التكنولوجيا أو ما عرف بعصر ما بعد الصناعة، ثم أخيرا وليس آخرا عصر التكنولوجيا المتقدمة أو العصر السيبرى.
وقد واكب هذه المراحل تغيرات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية. تجسدت فى ظواهر عابرة للثقافات بفضل الإنترنت أى الكل المتشابك. وقد أفرزت هذه الظواهر إشكاليات عديدة فى مقدمتها إشكالية تجسدت فى ظاهرتين كوكبيتين هما ظاهرة الرأسمالية الطفيلية والأصوليات الدينية. وفى مقدمة تلك الأصوليات الدينية الأصولية الإسلامية المدعمة بالإرهاب.
ويمثل عام 1988 دلالة خاصة بى، حيث التقيت فى ديسمبر من ذلك العام بالمفكر الأمريكى وأحد أهم مؤسسى علم المستقبليات (ألفن توفلر). وقد دار بيننا حوار استمر نحو الساعتين أو يزيد. وقد جاء هذا اللقاء على هامش مؤتمر دولى نظمته مؤسسة اليونسكو بالتعاون مع منتدى إيسيكول الذى أسسه المفكر والأديب الروسى الشهير (ايتماتوف). وقد شاركت فى هذا المؤتمر بدعوة شخصية من (فدريكو مايور) سكرتير عام منظمة اليونسكو آنذاك. وكان عنوان المؤتمر «مقاومة التجديد فى الأنظمة المركبة».
وأنا هنا أطرح حوارى كاملا مع توفلر وبنظرة إلى الوراء، أى فلاش باك، أدعو القارئ أن يبحث بين طيات الحوار عن جواب أو عدة أجوبة للسؤال المطروح فى عنوان المقال.
والجدير بالتنويه أننى قد اضطررت إلى تقسيم الحوار إلى جزءين أنشر الجزء الأول فى هذا العدد وبقية الحوار فى عدد قادم.
س- هل تعتقد أن العالم يواجه تهديدا حقيقيا وأنه فى حاجة إلى إنقاذ؟
ج- إن العالم يواجه تهدیدات عديدة ولكن السؤال ليس عما إذا كان فى حاجة إلى إنقاذ، ولكن عما إذا كان فى حاجة إلى إنقاذ فمن هو المنقذ؟ وأنا أعتقد أن التهديدات التى يعانى منها العالم عديدة، إنها تهدیدات سياسية واجتماعية واقتصادية وبيئية وتهديدات الأصولية الدينية أيضا، وثمة مشكلات عديدة، ولكنى لا أعتقد أننا مقبلون على كارثة ينتهى فيها العالم. فقد خفضنا التهديد النووى، وهذه بشرى طيبة وليست كارثة. ونحن ندمر الآن البيئة بفعل العمليات الصناعية التى لم نكن نفهمها فيما مضى، ولكن من المحال القطع بأننا سندمر الكوكب فى غضون عشرين أو خمسين عاما. فالتنبؤ بالظلام الدامس يتجاهل الإمكانات الهائلة التى مازالت كامنة فى العقل البشرى وفى المخيلة وفى المعرفة العلمية، وفى علم الجينات والزراعة والكمبيوتر، والموارد الجديدة، والفاعلية المتصاعدة للاقتصاد المستندة إلى العمل الذى يكشف لنا عن حاجاتنا إلى أقل قدر من المواد الخام، فنحن لسنا فى حاجة إلى تخريب الأرض كما سبق أن خربناها فيما مضى من الزمان، وهكذا، فثمة عوامل عديدة وخطيرة، ولكن ثمة إمكانات جديدة أيضا. وإن كان ما قلناه عن نفى الإنتاج الجماهيرى صحيح، فإن هذا القول ينسحب على مجال لم نناقشه بعد وهو نفى جماهيرية المصادر.
فإذا نفينا جماهيرية الإنتاج كان فى إمكاننا استخدام مصادر أکثر بكميات عديدة وصغيرة، وكان فى إمكاننا نفی تكثيف التلوث، وبذلك نخفض من التهديدات الموجهة إلى البيئة. نحن نعتقد أن ثمة تحولا عظيما حادثا على هذا الكوكب، وإذا كان هذا التحول مماثلا فى حجمه للتحول الذى حدث فى الثورة الصناعية منذ ثلاثمائة عام، وفى الثورة الزراعية منذ عشرة آلاف عام، فإن تحول اليوم عميق للغاية ومؤثر فى حياة الفرد فى هذا العصر، ومغير لأسلوب حياتنا وعملنا ومجتمعنا وللعلاقات بين البشر وأخلاقنا، بل وعلاقات القوى، ونحن نعتقد كذلك أنه تحول من شأنه أن يغير أساس الطاقة فى المجتمع، ولهذا فنحن فى حاجة إلى طاقة جديدة، ومشكلات البيئة الراهنة سببها أننا مازلنا نستعين بالطاقة الصناعية، ولكننا لا نعتقد أن تحقيق هذا التحول أمر میسور وخال من الأزمات، بل على العكس فهذه الأزمات هى علامة على هذا التحول كما كانت علامة على الانتقال إلى الثورة الصناعية وعلامة على الثورة الزراعية، إن التغيير الجذرى لأسلوب تنظيم المجتمعات البشرية لا يتم بسهولة ويسر.
س- أنا لا أعتقد أن نظريتك هذه تستند فقط إلى القول بأن الطاقة هى العنصر الوحيد للتغيير، إنها قد تكون عنصرا مهما ولكنها ليست هى العنصر الأساسى؟
ج- هذا صحيح لأننى أعتقد أن ما هو أهم من الطاقة هو تغيير المعرفة الإنسانية والثقافية. وأنا أقصد هنا المعنى الواسع المفهوم الثقافة من حيث أنه يشتمل على المعرفة التقنية والعلم والمعرفة العلمية والخيال والتجديدات المبدعة.
وللحوار بقية...