«باميلا زينون» ممرضة لبنانية، و«هيدويغ والتمانز موليير» زوجة السفير الهولندى ببيروت.. سيدتان عظيمتان، وأيقونتان إنسانيتان بكل المقاييس والمعايير، ففى وسط الخراب والدمار تظهر القلوب العامرة بالتضحية والبذل والعطاء، وفى وسط الظلام الدامس الملىء بالكراهية تظهر القلوب الممتلئة بالحب للإنسانية دون تفرقة، وفى قلب رائحة الموت تولد الحياة.
«باميلا زينون» ممرضة شابة تعمل بقسم النساء والتوليد بأحد مستشفيات بيروت، لكن ظفرها برقبة كل زعماء الطوائف وقادة الحرب وكل النجوم اللامعة فى سماء الحياة السياسية والطبقة الحاكمة فى لبنان التعيس، ففى لحظة غير متوقعة دوى صوت انفجار هائل فى مرفأ بيروت تسبب فى تحطيم مئات الأبنية والمنازل والمستشفيات ببيروت، ومن بينها حائط وأسقف مستشفى القديس جورجيوس أو كما يطلق عليه مستشفى الرومى، والذى تعمل به الممرضة اللبنانية باميلا زينون، ركضت فى أنحاء قسم الأطفال الذى تعمل به لإنقاذ الرضع وحمايتهم من الأضرار بعد انفجار المرفأ وما سببه من دمار، لم تفكر باميلا فى نفسها، ولم تتنكر لإنسانيتها، ولم تهرب من المستشفى هربا من الموت، ولكنها ركضت بكل عزمها وسط الظلام الدامس، وقفزت فوق الجدران المنهدمة والأسقف المتصدعة والزجاج المتناثر هنا وهناك، لكى تنقذ خمسة مواليد رُضّع كانوا موجودين بالحضّانات داخل القسم، استطاعت باميلا بمفردها أن تحمل ثلاثة أطفال ودبرت من يحمل الطفلين الآخرين، لتسجل الكاميرا لحظة من الرحمة والخوف تتجلى فى احتضان الممرضة لثلاثة رضع، بينما تجرى مكالمة هاتفية تستنجد خلالها بمن تبقى حيًّا من المسؤولين، ونزلت من الدور الرابع وسط الخراب المهول إلى الشارع لتقضى ليلة سوداء تركض كالمجنونة فى شوارع بيروت بحثا عن مأوى للأطفال، وطلبت من المارة بعض الملابس لتغطى الأطفال العرايا، وبسبب تضحيتها ورقى مشاعرها أصبحت باميلا زينون أيقونة عالمية للرحمة والإنسانية، فما فعلته هو تصرف إنسانى راقٍ ومتحضر قلما يتكرر.
والأيقونة الثانية هى هيدويغ والتمانز موليير، والتى تبلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا، وهى زوجة السفير الهولندى فى لبنان.. ارتبطت هيدويغ وزوجها جان منذ 38 عامًا وشغلا مناصب مرموقة فى وزارة الخارجية الهولندية، وفى لحظة انفجار المرفأ كانت هيدويغ تقف قرب زوجها فى قاعة الجلوس فى بيتهما ببيروت، وأصيبت إصابات بالغة نقلت على أثرها للمستشفى، وعندما فقدت الأمل فى شفائها قررت أن تعطى بعضًا من أعضائها لمن هم بأمس الحاجة إليها، وبالفعل نجحت العمليات الجراحية لمريضين كانا بحاجة للكلى، وأما هى فقد فارقت الحياة.
إن «باميلا زينون»، و«هيدويغ والتمانز موليير» سيدتان عظيمتان وأيقونتان إنسانيتان ببذلهما وعطائهما وخدمتهما وتضحيتهما، تقولان لنا: إن الوفاء والإخلاص والمشاعر الإنسانية النبيلة الراقية هى صفات لاتزال موجودة بين ظهرانينا رغم الخراب والدمار، ورغم العنف والإرهاب.. وإن الإيثار سيتغلب على الأثرة، وإن العطاء سيفوز على الأنانية، وإن النور الساطع سيشرق رغم الظلام المدلهم، وإن الحياة ستنتصر رغم الموت!!.