«المتوسط» مجددًا..

سمير مرقص الأربعاء 19-08-2020 01:36

(1)

«التحليل الاسترجاعى»

لم يعد خافيا على أحد أن الثروة الغازية قيد الاكتشاف فى شرق المتوسط هى سر المناوشات بين الدول المطلة على الحوض الشرقى للمتوسط، ومن خلفها كثير من الدول عبر شركاتها المتخصصة فى التنقيب على الغاز/ النفط والتى تلعب دورا كبيرا، بعضه معروف وبعضه الآخر خاف، فى دعم دولة على حساب أخرى. ومن ثم تأجيج المناوشات ودفعها إلى حافة الصراعات. فى هذه الحدود يبدو الأمر مفهوما. ولكن عندما نبدأ فى تحليل الاصطفافات والتحالفات المختلفة المتنافسة فى هذا الصراع سوف يبرز الكثير من التساؤلات التى تحتاج إلى فهم أكثر عمقا لتوفير إجابات مقنعة. وفى هذا المقام، يلفت نظرنا المؤرخ وعالم الجغرافيا السياسية الفرنسى «إيف لا كوست» (91 عاما) إلى ضرورة «العودة إلى علم التاريخ لفهم مقومات الأوضاع الراهنة»؛ أى أنه ولفهم ما يحدث فى الحاضر لا بد أن يكون لدينا معرفة تقريبية لما حدث فى هذا البلد أو ذاك فى الماضى البعيد وفى الأمس القريب.. وهو منهج يطلق عليه منهج «التحليل الاسترجاعى» الذى يزاوج بين الفكر التأريخى ومنهج التحليل الجيوـ سياسى.. كيف؟

(2)

«جديد المتوسط: قديمه، إلى حد ما..»

أى أن ما يجرى فى شرق المتوسط حاليا- على وجه الخصوص- وفى باقى المتوسط على امتداده عموما، لا يمكن فصله عما يمكن أن نطلق عليه علاقات التنافس التاريخية الممتدة على الثروة والجغرافيا والبشر.. فكل ما يمكن- بحسب لا كوست- «تصويره على خرائط مختلفة المقاييس، أو بمعنى أدق، على كل مستوى من مستويات تحليل الحيز المكانى (سواء كان هذا الحيز يقاس بالكيلومترات أو بعشرات أو بمئات الكيلومترات)، سواء تعلق الأمر بترسيم الحدود، أم بتواجد شعوب مختلفة تتكلم لغات مختلفة فى مناطق متداخلة، أم بالتوزيع غير المتساوى للسكان... إلخ، كل هذا ينتج عن صراعات نفوذ قديمة إلى حد ما، جرت خلال أزمنة طويلة»... والمهم الآن- وبإجماع علماء الجغرافيا السياسية- أن نعمل على تكوين فهم للصراعات الراهنة يقوم على أساس الربط بين الأماكن التى تحتلها هذه الصراعات على الخرائط، وبين تحليل للنتائج التى خلفتها فى الحاضر تلك الأحداث التى حصلت فى الماضى.. أى أنه من المحال- بحسب المدرسة الجيوسياسية الفرنسية الجديدة- فهم حتى «الخطوط العريضة لأى وضع جيوسياسى» من دون أن نعرف كيف وصلت الأمور الآنية إلى هذا الحد.. لذا يوصى المعنيون بهذا الشأن بإلزامية المعرفة الإجمالية بالصراعات على النفوذ التى تلاحقت عبر التاريخ فى المتوسط عموما وشرقه خصوصا.. لذا، وفى هذا السياق، سوف نلحظ كيف يستعمل بعض اللاعبين الإعلام لإحياء ذاكرات إمبراطورية أو حسب «لاكوست»- مرة أخرى- «لتأجيج صراعات قديمة خلنا أنها أصبحت من التاريخ».. وهو ما يفسر سخافات الأتراك فى محاولتهم لإعادة مجد بزغ لوقت قصير- على عكس الذى يتم الترويج له وتسويقه لسبب أو لآخر- حيث هُزم سريعا بفعل: الامتيازات الأجنبية والهزائم العسكرية ومؤامرات القصور الدنيئة.. كما يفسر الحضور الفرنسى اللافت السرعة إلى لبنان عقب تفجير مرفأ بيروت المطل على المتوسط...لا يعنى ما سبق أن التاريخ يكرر نفسه ولكن البحر الأبيض المتوسط يتميز بخصائص تعلى من قيمة الخيارات البشرية السياسية على سمات الجغرافيا الطبيعية- على أهميتها- لماذا؟

(3)

«بحر ليس له مثيل»

يجيبنا اللورد البريطانى المؤرخ «جون نورويش» فى مرجعه العمدة «الأبيض المتوسط: تاريخ بحر ليس كمثله بحر» (2006، ترجمة طلعت الشايب 2015، 800 صفحة) بأنه شهد من «المصائر السياسية» ما يجُب أى عامل آخر على أهميته وخاصة فى حوضه الشرقى الذى شهد ميلاد عديد الحضارات وتأسيس واندثار كثير من الإمبراطوريات وحياة- ربما- مئات القوميات واللغات.. وعليه، وإضافة للثروة الغازية البازغة، والطموحات ليس فقط الإقليمية وإنما الدولية: على مستوى الحكومات والشركات، أيضا، لابد من الأخذ فى الاعتبار تاريخ المتوسط وما شهد من صراعات/ تفاعلات يبدو لى أنها تتجدد. نواصل...