بعد أن كانت فكرة انتشار وباء ما يجبر الجميع على التباعد وأحيانًا النفور، ما هي إلا مجرد روايات حقيقية وثقتها كتب التاريخ، أو الأفلام الوثائقية، أو رواية خيالية حولها مخرج موهوب لعمل سينمائي يشيد به جماهير الشباك، أصبح الوباء أمر واقع فرض نفسه على العالم في ليلة وضحاها.
بينما كان للجيش الأبيض نصيب الأسد من البطولة في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد من قلب الحدث، منذ أن ظهرت أول حالة مصابة بالفيروس، وفي الوقت الذي كان البعض يعترض على دفن الضحايا في المقابر المتواجدة بالقرب من الأماكن المعمورة، كان هناك جيش أبيض ثانوي أو ربما هم أبطال ما وراء الكواليس، يتطوعون لغسل ضحايا كورونا بأنفسهم.
كيف يلاحق التنمر المتطوع بُغسل ضحايا كورونا؟
«كان نفسي أكل من أكل البيت».. بهذه الكلمات وصفت «نصرة.م»، شعورها بعد أن تحولت إقامتها بالكامل من المنزل إلى مستشفى كفر الدوار العام بسبب التنمر، حيث فر الجميع من مسؤولية تغسيل المتوفيات خوفًا من العدوى، الأمر الذي دفع إدارة المستشفى لمطالبتها بترك عملها كمساعدة للأطباء والقيام بمهمة الغُسل لخبرتها السابقة بالأمر، وهو ما تقبلته بصدر رحب «قولت فرصة أعمل حاجة لله».
بدأت القصة حين وجدت السيدة الأربعينية نفسها تقوم بالمهمة وحدها دون مساعدة، إذ لم تجد سيدة أخرى تتقبل تبادل العمل معها، كذلك فاجأتها ردود فعل أهل قرية «ملجا» النموذجية، محل سكنها، حين ذهبت لمنزلها لتبديل ملابسها، إذ لم يكن مُرحب بوجودها على الإطلاق، لذلك قررت المكوث في المستشفى تقليلًا لعدد مرات ترددها على المنزل «المستشفى جبرت بخاطري».
«البلد بحالها اتقلبت عليا»، تقول صاحبة الثلاثة وأربعين عامًا لـ«المصري اليوم» إن الأمر ازداد سوءً بعد أن شنت عدد من الصفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي حملات ضدها، مُدعيين أنها ستتسبب في نقل العدوى لأهل البلد، لتعلق قائلة: «المنشورات اللي شتمتني كانت جايبة تفاعل كتير».
وتابعت: «سبب الأمر لي ضيق شديد لذلك تواصلت بنفسي مع مدير إحدى الصفحات وجعلته يستمع لمحادثة أحدهم وهو يطلب مني باكيًا تغسيل شقيقته قبل طلوع النهار حتى يستطيعون دفنها دون أن يراهم أهل البلد الذين كانوا يعترضون على دفنها في مقابر القرية من الأساس»، مشيرة إلى أنها قالت له: «حتى لو كانت والدتك كنت هغسلها».
وعلى الفور استجاب مدير الصفحة وحذف المنشور بل ونشر لها اعتذارًا، وعلى غرار ذلك نشرت كل الصفحات التي هاجمتها اعتذارات لها.
كيف يتحول التنمر لموقف إنساني؟
بعد توقف الدراسة خلال فترة حظر التجول، تفرغت «تقى.م»، معلمة اللغة العربية لغير الناطقين بها، للعمل التطوعي في غُسل الموتى الذي تمارسه منذ 6 سنوات، إذ تشارك في عملية الغُسل بشكل مستمر سواء في بمستشفى العزل التابع للتأمين الصحي بالفيوم، أو بالمنازل داخل المحافظة ومراكزها.
«الواحد قلبه رقّ».. هكذا وصفت الفتاة العشرينية شعورها لـ«المصري اليوم» بعد أن علمت برفض البعض لاستلام جثامين أقاربهم أو عزوفهم عن المشاركة في الغُسل في الوقت، الذي كان المستشفى يعاني به من عدم توفر متبرعين للقيام بهذه المهمة، لذلك لم تتردد في الذهاب إلى المستشفى والقيام بعملها التطوعي، بعد أن كان الأمر لا يشغلها كثيرًا في بداية الأزمة.
ونظرًا للخطر الذي يتعرض له كل من يشارك في التعامل المباشر مع المتوفي داخل مستشفيات العزل، ظلت «تقى» تمارس مهمتها دون علم والدتها لمدة شهر ونصف «كنت عارفة إنها مش هتوافق»، بينما كان والدها دائمًا ما يشجعها منذ البداية، موضحًا أنه ربما تدور الأيام، ويكون المتوفي أحد أفراد العائلة، وهو ما حدث بالفعل.
تقول «تقى» إنه «بعد مرور فترة من تطوعي أُصيبت زوجة ابن عمي، وتم عزلها، ثم توفاها الله، ورغم وقوفي يوميًا على غُسل ما يقرب من إثنتي عشر سيدة في فترة تفاقم الأزمة، لم استطع الوقوف على غُسلها بنفسي، وتركت الغرفة لحين الانتهاء من تغسيلها، ثم استأنفت عملي مرة أخرى».
وبسؤالها عن الإجراءات الوقائية، أجابت «تقى»: «دلوقتي ولا في الأول؟»، موضحة أنها في بداية الأمر كان لابد من اتباع كل الاحتياطات من ارتداء بدلة العزل وأكثر من كمامة وقفاز، الأمر الذي يحبس أنفاسها «بدلة العزل مش بتدخل ذرة هوا»، لذلك كانت تحاول الالتزام بالإجراءات الوقائية قدر المستطاع، أما مع تناقص عدد الحالات أصبحت بمجرد دخولها للغرفة العزل تخلع بدلة العزل تكتفي فقط بالكمامة.
وعن تعرضها لمضايقات أو نفور الناس منها خوفًا من العدوى، قالت «تقى»: «الجيران مبقوش يكلمونا، وكان في شاب منهم بيأذيني نفسيًا»، حيث كان دائم الحديث بصوت مرتفع أثناء مرورها في الشارع قائلًا: «أنتِ اللي هتجيبي لنا كورونا»، وتابعت حديثها: «كنت أشعر أنه ابتلاء لذلك استعنت بالصبر».
وتابعت: «مع مرور الوقت أصيبت والدة ذلك الشاب بالفيروس، وعُزلت داخل مستشفى التأمين الصحي، ووجدت نفسي أقوم بمراعاتها بنفسي كمساعدة للممرضات، وبعد مرور أسبوعين وفي وقت متأخر من الليل تلقيت اتصالًا هاتفيًا من الشاب ليخبرني بوفاتها».
ومضت قائلة: «أبلغني بأنه لا يستطيع تركها حتى الصباح، ويعلم أنه من الصعب ذهاب السيدات في مثل هذه الساعة المتأخرة للمستشفى لذلك طالبني بالذهاب، وبالفعل ذهبت، وغسلتها بمفردي دون مساعدة».
«إن الله يدافع عن الذين آمنوا».. بهذه الآية الكريمة استشهدت صاحبة الـ 26 عامًا على أنه لولا ذلك الحدث لما تغير موقف الجيران منها للأفضل.
العمل التطوعي ليس اختياري
وبنبرة دافئة بلهجة العامية التي يتخللها الطابع الريفي في أبسط صوره، تقول «أم مصطفى» إنها استمرت في عملها التطوعي الذي تقوم به منذ 15 عامًا بعد انتشار الفيروس رغم عمرها الذي يتعدى الخمسين، وأضافت متعجبة: «هو إحنا هنغسّل على مزاجنا، العادي أه والمريض لأ».
وأوضحت السيدة الخمسينية لـ«المصري اليوم» أنها «لم أفكر لحظة في التوقف عن هذا العمل، فالموت لا ينتظر كورونا، ويمكنه أن يدق بابي في أي لحظة، كما أنني شاركت في غُسل حالات داخل المشرحة، وكان الأمر يصعب وصفه لكن الله يعطيني القدرة على التحمل، فبالطبع لن يكون التعامل مع المتوفي بالفيروس أصعب من ذلك الموقف».
«الدنيا زي الحصالة».. لهذا السبب استمرت السيدة الخمسينية في مهمتها رغم مناعتها الضعيفة وزوجها الذي يخاف عليها «أفعل ذلك لآخرتي وزوجي يؤجر عني، فلن أنتظر حين يخرج أحدهم صدقة على روحي، وأتمنى تعليم بناتي خطوات الغُسل لوجه الله»، مضيفة «هجيب عروسة وأعلمهم عليها».
هل ينتصر التردد على فاعل الخير في وقت الأزمات؟
وتقول «س.ش»، إن «المحاماة هي مهنتي الأساسية، وبدأت المشاركة في تغسيل الموتى كعمل تطوعي منذ عام تقريبًا ضمن مجموعة مكونة من 6 سيدات، ومع حلول أزمة كورونا بالطبع أصابني القلق لكن لفترة لم تدم كثيرًا».
وأضافت السيدة الثلاثينية لـ«المصري اليوم» أن «أقنعتني زميلتي ألا أتخلى عن مهمتي، وأنه طالما نفعل ذلك من أجل الثواب فقط فلن يصيبنا شيئًا، وإن أصابنا فهو القدر»، موضحة «إحنا بنُستر ميّت»، لذلك لم تدم فترة تردد «س» في استكمال عملها التطوعي خاصة مع توقف عملها الأصلي خلال فترة فرض حظر التجول.
في البداية، كانت السيدة الثلاثينية تقف على الغُسل دون المشاركة، حيث كان القلق مازال يسيطر على مشاعرها، ولكن بعد وقوفها على غُسل 4 سيدات وجدت نفسها تشارك شيئًا فشيئًا، إلى أن بدأت تمارس مهمتها بشكل طبيعي مع الالتزام بالإجراءات الاحترازية المشددة «صعب عليّا اللي بيني وبين ربنا وجوزي بيشجعني».
«كورونا ولا عادي؟».. السؤال الذي فرض نفسه منذ انتشار الوباء، حيث تقول «س» إنه لم يمتلك الجميع ثقافة الاعتراف بسبب الوفاة تحسبًا لرفض المُغسل للقيام بمهمته، لذلك تتبع الإجراءات الاحترازية حتى وإن لم تتأكد من السبب الحقيقي، مؤكدة أنها شاركت في غُسل عشر حالات وهي على علم بأنهم ضحايا الفيروس التاجي.
ماذا يحدث داخل غرفة غُسل ضحية كورونا ؟
وعن طرق الوقاية المتبعة مع متوفي كورونا أو المشتبه في إصابته، أوضح «إبراهيم»، أحد المتعهدين بتغسيل الموتى بمستشفى العزل بمركز بلبيس تحت إشراف الجمعية الشعبية لحماية المستهلك، أن الجمعية تواصلت مع المستشفى في بداية الأزمة للتعرف على الإجراءات الوقائية، وبالفعل تم إخطارهم من قبل إدارة المستشفى بالتعليمات الواجب اتباعها.
وقال «الزهار» لـ«المصري اليوم»، إنه «مع بداية ازدياد معدل الإصابات بفيروس كورونا كان من الممكن أن يصل عدد الضحايا التي أشارك في غُسلها إلى 12 حالة من داخل المستشفى والمنازل معًا، لذلك كنت أرتدي بدلة العزل والحذاء البلاستيكي أو ما يطلق عليه (الكوذلك)، بالإضافة لقناع الوجه (الفيس شيلد) ونظارة واقية وثلاث كمامات وثلاث قفازات».
ويروي: «الطريقة الشرعية في غُسل الموتى بها عدة خطوات تبدأ بالوضوء، ثم غسل كل شق من الجسم ثلاثة مرات، ولكن في حالة متوفي كورونا الأمر يختلف إذ أننا في حاجة لاختصار مدة الاحتكاك به من أجل الحفاظ على سلامتنا، لذلك نأخذ بالرخص، بمعنى أن الأصل في الغُسل هو تعميم الجسم بالماء وهو ما نفعله مع المتوفى».
وتابع: «نستخدم كلور مخفف بالمياه بنسبة 1 إلى 10 % تبعًا لتعليمات وزارة الصحة، ويتم تعميم جسم المتوفى بالمحلول المعقم، وبعد الانتهاء من عملية الغُسل، يتم وضع الجثمان في كيس بلاستيكي، ثم يُكفن بثلاث أثواب من الكفن، ثم يوضع داخل كيس بلاستيكي آخر»، مضيفًا: «بنعقّم المكان بين كل حالة والتانية».
«عزلت نفسي عن أسرتي».. هكذا كان يتعامل «إبراهيم» مع أسرته خلال فترة الذروة، كما أنه حرص على أن يتلقون بروتوكول العلاج على اعتبار أنهم مخالطين، كما أقنعهم باستكمال مهمته بعد نصحهم له بالتوقف ولكنه طالبهم بالصبر موضحًا أن هناك حالات وفيات استمرت أكثر من يومين بسبب عزوف أسرهم عن الغُسل «الناس بتفر من بعضها، وده ظرف طارق ولازم نتصرف».
وقال محمد سالم، نائب مدير مستشفى بلبيس، إن إدارة المستشفى تتواصل مع المتبرعين بالمشاركة في الغُسل من خلال الجمعية الشعبية، التي تتواصل بدورها مع فريق مدرب على اتباع الإجراءات الاحترازية إلى جانب الطريقة الشرعية للتغسيل، وذلك من خلال توجيهات المستشفى بكيفية اتباعها.
وأضاف «سالم» في تصريحات لـ«المصري اليوم» أنه «في البداية وجهت إدارة المستشفى المُغسلين بكيفية التعقيم ونصحتهم بمحاولة اختصار وقت الغُسل قدر الإمكان لتجنب حدوث العدوى، واستخدام الأكياس البلاستيكية قبل التكفين وبعده»، لافتًا إلى أن «خطوة وضع الكيس قبل التكفين يمكن الاستغناء عنها في حالة عدم كفاية الأكياس، ويمكن تجاوزها، بالإضافة إلى توفير القفازات والكمامات وبدلة العزل، التي يتم إعدامها بعد الاستخدام ولا تستخدم أكثر من مرة».
وعن الإجراءات المتخذة من قبل إدارة المستشفى في حالة رفض أحدهم لارتداء الملابس الواقية أو الاكتفاء بجزء منها، فأوضح «سالم» أن «هذا الأمر لم يقابله في المستشفى، ولكن في حالة حدوث مخالفات بشكل عام يقوم الفريق الإداري بدوره في تطبيق التعليمات»، مشيرًا إلى أنه «لا يوجد رقابة داخل غرف الغُسل احترامًا لخصوصية المتوفى، وإذا كان المُغسل من أسرة المتوفي وقرر الاستغناء عن الملابس الواقية داخل الغرفة فعليه تحمل مسؤولية نفسه».
وعلق الطبيب النفسي إبراهيم مجدي على الأمر قائلًا: «التطوع من الأمور الجالبة للسعادة بشكل عام، لذلك يعتبر تطوع الشخص وكسره لحاجز الخوف وتدخله بشجاعة في وقت يسود فيه الشعور بالخطر ويمتنع فيه الأغلبية عن المشاركة في عملًا ما، يؤدي لامتنان الناس له ويضعه في خانة الأبطال، ويعطيه المزيد من الطاقة بل ويساهم في رفع مناعته».
وأضاف «مجدي» في تصريحات لـ«المصري اليوم»، أنه «من ناحية أخرى، وارد أن يصاب أحدهم بالعدوى أو يتسبب في نقلها لأحد أفراد أسرته بما ينعكس على شعوره بالندم الشديد، لذلك من الضروري أن يكون المتطوع في هذا العمل خلال فترة حرجة كالتي نمر بها مؤهل صحيًا لذلك فالتطوع أمر له شروط وليس مطلقًا».
وتابع: «قبل الخوض في التجربة يجب إجراء تحاليل الدم والتأكد من قوة الجهاز المناعي، وكذلك التأكد من عدم وجود أمراض مزمنة بالإضافة لضرورة الإلمام بالجانب الوقائي لتجنب العدوى».