وكأننا شعب لا نصحو من النوم ولا نمشى ولا نأكل ولا نشرب ولا ننام ولا نبول ولا نتكاثر ولا نضاجع إلا بالفتوى، مهمومون بسؤال يراودنا إذا هممنا إلى عمل أو انصرفنا عنه، هل نحن على حق أم على باطل؟ وعلى حلال أم حرام؟ ولم يسأله يوما لنفسه عن حق إخوته في الميراث حين أكله وبلعه، أو يستفسر عن الحرام حين تكاسل عن أداء عمله وعطل مصالح العباد عن قصد أو إهمال، أو حين ارتشى لتأخير منفعة على صواب أو أنجزها على خطأ، وهرول بعدها إلى الصلاة قبل فواتها، أو سافر إلى العمرة أو مناسك الحج على نفقة الراشى، ولا أدرى ولا أفهم لماذا لا نفلح كما فلح العالم ونحن بين ملايين الفتوى نسير، وبين جدران المساجد نصلى ونركع وندعو!.. وإلا قُل لى بالله عليك مَن على صواب ومَن على خطأ؟ ومن الناجح والمتقدم والمتفوق ومن القابع والفاشل والمنهزم؟ وأيهما كلف خاطره ووقته في البحث عن الفتوى؟ وكم قابل مَن سهل له سوء عمله، وكأنها من جعبته وليس من دين الله، وقد كان السؤال دوما لأبى هريرة حين كان يكثر القول عن رسول الله، أمن جعبتك يا أبا هريرة؟ وكان يضحك أحيانا حين يصيبه السائل، ويتملكه الغيظ حين يخطئه السؤال.
وتتباهى دار الإفتاء المصرية، والمركز الإلكترونى للفتوى، ومركز الأزهر العالمى للفتوى، والقنوات الشرعية والتليفزيونية الخاصة والرسمية ومصاطب الفقهاء بملايين الفتاوى السنوية.. وللأسف، ما تقدمنا خطوة، وما تطورنا درجة، وما نجحنا وما صنعنا وما شبعنا، ونجح الذين جعلوا العلم والعمل والإخلاص والبذل غايتهم ومنتهاهم، والقانون والدستور قدوتهم، ولم يسمعوا يوما يجوز أو حلال أو حرام، بل سمعوا فقط قانونى وغير قانونى، وأخلاقى وغير أخلاقى، مفيد وغير مفيد، ودارت فيما بينهم على المكسب والخسارة.
وكأننا كنا في حاجة ماسة لفتوى دار الإفتاء المصرية لإباحة لعب الطاولة مثلا، وقيدتها على البعض «ما لم يكن الكلام خارجا أو شاغلا عن الصلاة أو العمل أو الرزق، ولا تؤدى إلى منازعة أو شجار»، حتى بدأ يصطف المسلمون على المقاهى والكافيهات ليتبركوا بلعب النرد، وزيادة في الكسل والتناحة، حتى خرج علينا من علماء الأزهر من حرّمها شرعا «مدير أوقاف القليوبية» وقال: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» فتوقف الناس في الصفوف منتظرين رأيا أقوى «نلعب النرد ولّا ما نلعبش».. أو كأننا كنا في حاجة إلى فتوى زراعة الشعر من منطقة في الرأس إلى منطقة أخرى في رأس الإنسان نفسه، لأنها لا تحمل تغييرا في خلقته، واختلفوا في جواز زراعته من شخص لآخر، ووقف الطابور على عيادات الأطباء لحين الفصل في الأمر «نزرع من رأس لآخر أم ننتظر»؟. وكأننا كنا أيضا في حاجة إلى فتوى دار الإفتاء بأن إلصاق جريمة التحرش النكراء على نوع الملابس وصفتها وشكلها تبرير وأهم، لا يصدر إلا عن ذوى النفوس الضعيفة والمريضة والأهواء الدنيئة، فالمسلم مأمور بغض البصر عن المحرمات في كل الأحوال والظروف، حتى وقف المتحرشون انتباه، ولم يتقدموا خطوة واحدة ناحية السافرات الكاشفات، وعاشت البنات في سلام وأمان، وخرجن ليلا بالمكشوف والعريان لا يخفى أحدا، وسلمن من كل سوء بفضل فتوى دار الإفتاء المصرية.
ونحن مازلنا وقوفا على أبواب المقابر والجبانات نتحسر على ما ضاع من أعضاء الموتى، وكانت ترفع عن الناس عذاباتهم، وتعينهم على قسوة الحياة، وهى تذوب وتتحلل في التربة، وقد كان أولى بها المرضى والمعاقين، لأن بعضا من المشايخ قد حرم نقل الأعضاء من واحد إلى الآخر حتى لو كانت بضوابط، والكثير من المسائل نقف على أبوابها لا نأخذ منها ما ينفع الناس، بل ما يضر وما يؤسف عليه، كالطلاق الشفوى والميراث وغيرهما، وكأن الأجدر والأنفع أن يضبطها القانون، وتضيق وتتسع حسب احتياجات الناس ومنافعهم، وإلا قُل بالله عليك من الأحق بالاتباع: القانون أم الفتوى؟.
القانون هو الأحق والأولى بالاتباع بعيدا عن سيطرة هؤلاء جميعا، فقهاء ومشايخ وممولين، فلم تتقدم الدنيا إلا بالعلم والعمل، والالتزام بالدستور والقانون حين يتسارعان ويتسابقان في تلبية احتياجات الناس، ولم نتأخر إلا بالأخذ بالفتوى والكسل والتغافل عن مصالح العباد، إرثا بلا وارث، ووقفا بلا مصلحة.. وتحضرنى حكاية شيقة عن «الرشيد والبرمكى» وفيها ملخص ما نحن فيه، والرشيد هو خليفة المسلمين العباسى هارون الرشيد، والبرمكى هو أبوالفضل جعفر بن يحيى البرمكى، وزيره وحامل أختامه ونديمه في ليالى السهر والهلس والخمر، اشترى البرمكى جارية هيفاء حسناء، وقعت في نفس «هارون الرشيد» وأراد أن يضاجعها في ليلته تلك، وأقسم على«البرمكى» بطلاق زوجته «زبيدة» وأن يبيعها له البرمكى أو يهبها له، فأقسم البرمكى بالطلاق ألا يهبها «لهارون» أو يبيعها له، فلما أفاقا من سكرهما طلبا أبا يوسف قاضى القضاة لتدبر الأمر، وللحكاية سقطات وحيل وتدليس، أرجوكم أن تعودوا إليها. المهم في الحكاية أن الإمام قد خلص الحكاية كلها لصالح الخليفة، فقد ابتاعها الرشيد لنفسه، وضاجعها دون عدة، واستمتع بها قبل صلاة الفجر، ثم لحقه فصلى، هكذا نحن مع هؤلاء.. مباح كل شىء لصالح الخلفاء والأمراء، حتى الشعوب، ونلحق جميعا بالصلاة قبل فواتها.