إذا كان الأمن المائى هو الثابت الأبرز، الذى تقوم عليه السياسة الخارجية المصرية تجاه دول حوض النيل، فمن جهة يجب على مصر ما بعد ثورة 25 يناير أن تضع على رأس أولوياتها إعادة النظر فى علاقتها بدائرتها النيلية، وفى القلب منها دولة إثيوبيا، باعتبارها المصدر الرئيس لمياه النيل الواردة إلى مصر، حيث تمثل حوالى 86% من إجمالى حصة مصر المائية البالغة 55 مليار متر مكعب سنويًا، ومن جهة أخرى فإن إثيوبيا هى الدولة المحورية من بين دول المنبع، باعتبارها متزعمة التحرك باتجاه إعادة النظر فى تقسيم المياه بين دول المنبع ودول المصب فى سياق ما يعرف باتفاقية عنتيبى «الإطارية».
وتدعو إثيوبيا من خلال اتفاقية إلى تأسيس «مفوضية» للإشراف على بناء السدود، وتطوير عملية الرى فى دول الحوض، وإعادة تقاسم مياه النيل بين دول المنبع ودول المصب، وفقاً لما سمى «التوزيع العادل للمياه»، باعتبار أن الوضع القائم حالياً غير عادل، حيث ترى إثيوبيا ومعها الدول النيلية الثلاث الموقعة على الاتفاقية، رواندا وتنزانيا وأوغندا، أنه ليس من العدل أن تحصل مصر والسودان، دولتا المصب، على نحو 90% من مياه النهر، مقابل 10% فقط تذهب لدول المنابع، ومن ثم فإن الدول الموقعة تسعى بموجب هذه الاتفاقية إلى تخفيض نصيب مصر من مياه النيل بمقدار خمسة بالمائة.
ولعل أبرز ما استندت إليه إثيوبيا فى جولات التفاوض بشأن الاتفاقية الإطارية، يتمثل فى التأكيد على حق دول المنبع فى الخروج من دائرة الفقر الغذائى، وتحقيق التنمية المستدامة، لكن المدقق لتوجهات الدولة الإثيوبية يلحظ أبعاداً أخرى تفرض نفسها على لغة المفاوض الإثيوبى تتعلق بمبدأ السيادة الوطنية، والمصلحة العليا، ورفض ما تصفه بـ«الوصاية المصرية» على دول النيل، على خلفية حقوقها التاريخية فى مياه النهر، ومن ثم فهى ترفض المنهجية المصرية أو التعاون وفقاً للرؤية المصرية التى تعتبرها مجحفة وغير عادلة. ما يؤكد هذا الشك فى النوايا الإثيوبية واضطلاعها بتسييس قضية المياه فى حوض النيل، هو حقائق الجغرافيا والمناخ، فمن المعروف أن الزراعة فى إثيوبيا ودول المنابع تعتمد بشكل أساسى على الهطول المطرى، ولا تعتمد على مياه النيل، إذ تمثل الزراعات المطرية فى دول حوض النيل نحو 95% من إجمالى الأراضى المزروعة فى تلك الدول.
ومن ثم فإن ادعاء إثيوبيا ودول المنبع أن مصر برفضها اتفاقية «عنتيبى» إنما هى تعرقل خططها المستقبلية للتحول إلى الزراعات المروية لضمان إنتاج أكبر من القطاع الزراعى، لسد فجوة غذائية عميقة جعلتها تتربع على قائمة الدول الأكثر تلقياً للمعونات الغذائية - هو ادعاء يجافيه منطق الجغرافيا وحقائق المناخ، لأن التنمية بالأساس إنما ترتبط بتنمية العنصر البشرى وتهيئة البنية التحتية اللازمة مثل شبكات الترع وشبكات الصرف الزراعى، وهو ما لم تضطلع به تلك الدول، ومن ثم فقد وجدت من تلك الأزمة المفتعلة مخرجاً لها أمام شعوبها من معضلة التنمية وجدلية الفقر.
ما يزيد الأمر خطورة بالنسبة للدولة المصرية أن ما تخطط له إثيوبيا من مشاريع يشتمل إقامة وتوسيع سدود إثيوبية على النيل الأزرق، أهمها أربعة سدود كبرى، وهى، كارادوبى، وبيكو أبو، ومندايا، وبوردر، بسعة إجمالية تقدر بحوالى 150 مليار متر مكعب أى ما يقرب من ثلاثة أضعاف إيراد النيل الأزرق، وقدرة كهرومائية 7100 ميجاوات، مما يضاعف من آثاره السلبية حصة مصر المتدفقة من مياه النهر، والإشكالية الأكبر فى هذا المقام أن التصميمات والدراسات التى أجريت لإتمام هذه المشاريع تمت فى سرية تامة، ودون علم مصر بما يخالف الاتفاقيات الدولية المبرمة بين دول حوض النيل باعتباره نهراً دولياً لا يحق لأى دولة إلحاق الضرر بأى من الدول الأخرى أو المساس بحصتها المائية وفقاً لقواعد القانون الدولى للأنهار. ولعل القراءة المتأنية فى واقع العلاقات المصرية الإثيوبية، خلال النصف الثانى من القرن الفائت، تكشف لنا عن حقيقة مفادها أن إثيوبيا دائماً ما كانت تهدف إلى تشكيل جبهة معارضة لمصر فى دائرتها الإفريقية، مستخدمة المياه كسلاح سياسى، الأمر الذى دفع مصر فى كثير من الأحيان إلى تصعيد خطابها ضد التوجهات الإثيوبية، وإن بدرجات متفاوتة من ضبط النفس، وفقاً للحقب الرئاسية الثلاث التى مرت بها مصر ما بعد ثورة يوليو 1952.
ففى حقبة مصر الثورية إبان حكم الرئيس عبدالناصر، تجاوزت الاهتمامات المصرية دائرة حوض النيل، لتشمل الدائرة الإفريقية إجمالاً، لاسيما فى مرحلة التحرر من الاستعمار، ولم تخرج العلاقات المصرية الإثيوبية عن هذا الخط، فقد تطورت العلاقات الشخصية بين الرئيس عبدالناصر والإمبراطور هـيلا سيلاسى بما تلاشى معه استخدام قضية مياه النيل كورقة ضغط سياسى على مصر، بيد أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً، فسرعان ما نشبت الخلافات بين البلدين على خلفية قيام مصر ببناء السد العالى دون أن تستشير دول المنبع، وهو ما عارضته إثيوبيا.
مع رحيل الإمبراطور هيلا سيلاسى، وتولى منجستو هيلا ماريام اشتعلت قضية مياه النيل بين مصر وإثيوبيا، خاصة بعد أن أعلن الرئيس السادات عن مشروع لتحويل جزء من مياه النيل لرى 35 ألف فدان فى سيناء، وهو ما رفضته إثيوبيا باعتباره خطراً يهدد مصالحها المائية، وتقدمت بشكوى إلى منظمة الوحدة الأفريقية فى ذلك الوقت تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل، واحتدم الخلاف إلى حد تهديد الرئيس الإثيوبى «منجستو» مصر بتحويل مجرى نهر النيل، فيما وجه الرئيس السادات خطاباً حاداً إلى إثيوبيا معلناً أن مياه النيل «خط أحمر» مرتبط بالأمن القومى المصرى، وأن المساس به قد يدفع مصر إلى استخدام القوة المسلحة لضمان أمنها المائى.
ومع بداية الثمانينيات، وتولى الرئيس السابق حسنى مبارك مقاليد الحكم فى مصر، بدأت مرحلة جديدة من العلاقات المصرية – الإثيوبية، خفت فيها حدة الخطاب السياسى بين البلدين، وسادت علاقات من التعاون والتفاهم، توجها تكوين تجمع (الأندوجو)، الذى نشأ عام 1983، وهو يعنى (الإخاء) باللغة السواحلية، وذلك كإطار إقليمى للتشاور والتنسيق بين دول حوض النيل، رغم أن إثيوبيا لم تنضم إليه إلا بصفة مراقب مع كينيا.
ورغم حرص الرئيس السابق مبارك على وجود علاقات طيبة لمصر فى محيطيها العربى والإفريقى، ووجود زيارات متبادلة له فى عقد الثمانينيات من القرن الماضى مع الجانب الإثيوبى، فإن ثمة خلافات برزت بين الجانبين بشأن خطط نظام منجستو لإقامة مشروع كبير فى منطقة تانا بيليز، لمضاعفة الإنتاج الكهربائى الإثيوبى، وهو مشروع بدأت مرحلته الأولى عام 1988، وبلغت ميزانيته 300 مليون دولار أمريكى، وكان من المقرر أن يتم من خلاله إقامة خمسة سدود لتوفير المياه لحوالى 200 ألف مزارع فى إثيوبيا. فعارضت مصر وتصدت لمحاولة حصول إثيوبيا على قرض من بنك التنمية الأفريقى، مما زاد من توتر العلاقات بين الطرفين وصولاً إلى مرحلة الفتور.
وفى 1995 انقلب الفتور إلى قطيعة مع محاولة الاغتيال التى تعرض لها الرئيس السابق مبارك بأديس أبابا إبان زيارته لحضور مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية المنعقد هناك، بعد تصاعد لهجة التصريحات الرسمية والإعلامية العدائية المتبادلة بين البلدين، وقد استمر الفتور فى العلاقات بين الجانبين طوال العقد الأخير من حكم الرئيس المخلوع، وهى الفترة التى تصاعدت فيها حدة الخلافات بين مصر ودول المنبع بشأن إعادة النظر فى اتفاقيات تقاسم مياه النهر.
ولعل القمة الأفريقية المزمع عقدها فى إثيوبيا خلال يومى 15 و16 الجارى، تكون بداية انطلاقة جديدة للعلاقات المصرية الإثيوبية بشكل خاص، والمصرية الأفريقية بشكل عام.