عندما يتزايد المتطرفون فكريًا ودينيًا فى أى مجتمع، فمن المحتم أن تطفو وبقوة على السطح الاتهامات للمغايرين بالتكفير وبالهرطقة وبالتخوين الوطنى، وفى ظل الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعى، وفى ظل إتاحة الفرصة لأى شخص سواء كان حكيمًا أو جاهلاً أن يقول ما يريد، ظهر أشخاص متعصبون يكيلون السباب للمغايرين دون ضابط أو رابط، فكثرت الاتهامات بالهرطقة والتكفير والخيانة لكل من يفكر بطريقة مختلفة عن المتزمتين والمتعصبين والمتطرفين.
وفى ظل انتشار جائحة كورونا، كثرت الحوارات فى وسائل التواصل الاجتماعى بكثرة وبوفرة حول تأثيرات الجائحة سياسيًا واقتصاديًا ودينيًا وأخلاقيًا وضحاياها فى الداخل والخارج، وأخذت الحوارات الدينية من أتباع كافة الأديان حول أسباب الجائحة وطرق علاجها حيزا كبيرا من رواد وسائل التواصل الاجتماعى، وكان من اللافت للنظر- على اختلاف الأديان- ظهور تيارين واضحين فى الموقف الدينى من الجائحة، التيار الأصولى المتزمت المتطرف المهتم بالشكل والطقس دون المضمون والمنحاز للخرافات، والتيار العقلانى المهتم بالمضمون وبالجوهر والمنحاز للعلم وللمحاذير الطبية، فمثلاً بشأن فتح دور العبادة من عدمه وممارسة الطقوس والشعائر الدينية- سواء فى المساجد والكنائس- انحاز التيار الأصولى المهتم بالشكل للفتح والصلاة وممارسة الطقوس بشكلها المعتاد دون أية تغييرات ولو شكلية تجنبًا لانتشار الوباء ظنًا من أتباع هذا التيار أن المؤمن فى مأمن وهو مُصان ولن يمرض أو يُصاب، بينما انحاز التيار العقلانى لغلق المساجد والكنائس وحتى مع الفتح التدريجى انحاز هذا الفريق لرأى العلماء والأطباء وقالوا لابد من عمل بعض التغييرات فى الطقوس الشكلية حرصا على صحة المصلين.
ودافع كل فريق من الفريقين على وسائل التواصل الاجتماعى بكل البراهين والأدلة التاريخية والتراثية عن وجهة نظره، محاولًا إثبات صحتها، ولو انتهى الأمر عند مجرد عرض وجهات النظر المختلفة لما كانت هناك مشكلة، فحرية الرأى مكفولة للجميع، والاختلاف فى الرأى شىء طبيعى وصحى، ولكن مما يؤسف له أن أصحاب التيار الحرفى الأصولى الماضوى ولتوهمهم بامتلاك الحقيقة المطلقة اتهموا المنادين بتجديد الفكر الدينى وأصحاب الرأى العلمى الواقعى، بالتكفير وبالهرطقة وبالتنازل عن المعتقدات المقدسة والثوابت الإيمانية، وطالت هذه الاتهامات عددًا لا بأس به من القيادات والرموز الدينية المسيحية والإسلامية، واستخدم عدد من الشباب المتحمسين والأحاديين ألفاظا نابية يعاقب عليها القانون، طنًا منهم أنهم حراس المعبد وحماة العقيدة والمدافعين عن الإيمان ونواب الله فى أرضه!!
وهنا لابد من التفرقة بين الحرية فى النقد وإبداء الرأى- والتى هى حق لكل أحد- وبين حرية السب والقذف والتطاول على كل من يجتهد ويبدع ويسعى لمكافحة الجائحة وإعمال العقل وإعمار الأرض، فحرية الرأى مباحة ومتاحة للجميع، والاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، أما التطاول والتخوين واستخدام عبارات السب والقذف، فهى أمور مرفوضة شكلًا وموضوعًا، ولا يجوز السكوت عليها.
ومن الخطأ الفادح أن يعتبر المتطرفون أن اتهامهم للمغايرين بالتكفير والهرطقة هو من باب حرية التفكير والتعبير، فهذا خلط فادح وفاضح للأمور، لأنهم بهذا الخلط إنما يستخدمون الحرية وهى أحد مبادئ الديمقراطية- والتى هى بطبيعتها ضد المُطلقات وضد الاتهام بالتكفير والهرطقة- لتشويه الديمقراطية ودعاتها والمدافعين عنها، متناسين أن الثورة العلمية والتكنولوجية ما كان لها أن تنجح وتتقدم دون العمل بمبادئ الديمقراطية، فالسب ليس من الحرية ولا من الديمقراطية فى شىء، وحرصًا على السلام الاجتماعى وعدم نشر الفوضى، ومنعًا لإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعى، لابد من استخدام الحق القانونى وقيام المتضرر بتحرير محضر سب وقذف لردع كل من تسول له نفسه الإساءة للآخرين إلكترونياً، فمَنْ أمِن (العقوبة) أساء (الأدب)!!