كيف يمكن القضاء على الإرهاب؟

منى أبوسنة الخميس 09-07-2020 02:47

في عام 2005 احتفل العالم بمرور خمسين عاما على موت اللاهوتى والجيولوجى والمتفلسف الفرنسى (تيار دی شاردان)، وكان هذا الاحتفال هو نهاية الاحتفالات التي بدأت في عام 2002، حيث عقدت الندوات والمؤتمرات الدولية في المدن التي أقام بها هذا اللاهوتى المتفلسف، فعقدت ندوتان دوليتان بعنوان «نحو بناء الأرض»، إحداهما في القاهرة، حيث كان تیار دی شاردان يقوم بالتدريس في مدرسة العائلة المقدسة من 1905 إلى 1908، والأخرى في باريس من نفس ذلك العام. ثم توالت الاحتفالات فعقدت ندوة دولية في عام 2003 بمدينتين أخريين هما ستراسبورج بفرنسا وبكين بالصين، تحت عنوان «بناء الأرض وحمايتها»، وفى عام 2004 عقدت ندوات في روما وباريس تحت عنوان «الإيمان بالله والإيمان بالإنسان»، وكذلك في هستنجز بإنجلترا، وليل بفرنسا عن (التساؤل عن معنى التطور).

وقد انتهت الاحتفالات في عام 2005 بعقد ندوة دولية في كل من نيويورك وباريس بعنوان (مستقبل البشرية)، وبهذه المناسبة أثيرت قضيتان محوريتان هما:

«بناء الأرض»، و«حوار الثقافات»، وأبدا بالقضية الأولى، وهى بناء الأرض، ويعرفه تیار دی شاردان بأنه روح الأرض، ويقصد الروح الكامنة في الوعى بالمصير المشترك، أو هي الوحدة الإنسانية الطبيعية والواقعية، وتكمن هذه الوحدة في الحب، أو بالأدق في مجال الحب.. باعتباره القوة المحركة للتطور، والذى يحقق الوحدة بين البشر، من أجل استكمال أوجه النقص، وهذا الاستكمال لا نهائى ويخضع لصيرورة التطور.

والسؤال الآن: «ما هي معوقات تحقیق هذه الغاية؟»، عند شاردان العوائق ذات طابع سيكولوجى لأنها تنطلق من الانفعالات السالبة لدى البشر، والتى يتعين مجاوزتها بعاطفة الحب.

وهذه الطاقة المحبة اللازمة لبناء الأرض، ليست إلا إشعاعا صادرا من الأوميجا، وهى النهاية وغاية الحياة، وهى الدافع وراء كل فعل إنسانى، وهذه الغاية يسعى إلى تحقيقها الإنسان مدفوعا بالإيمان، وحيث إن هذا السعى يتسم بالطابع الإنسانى العام والشامل. فإن هذا الإيمان ينبغى أن يكون هو أيضا منها بالطابع العام والمشترك بين بنى البشر أجمعين، الأمر الذي يثير إشكالية جوهرية تكمن في التناقض بين الإيمان كما عبر عنه شاردان من جهة، والتعصب العقائدى، أي الدوجماطيقية، من جهة أخرى، والسؤال هو كيف يتم رفع هذا التناقض؟!

في تقديرى أن رفع التناقض يتم بالحوار، والحوار على ضربين:

الأول: يدور حول الإيمان من جهة، والتعصب من جهة أخرى، ومجاله علم اللاهوت، أو فلسفة الدين، والثانى يدور حول الحضارة الإنسانية الواحدة من جهة، والثقافات المتباينة والمتعددة من جهة أخرى.

وفيما يختص بالحوار بين الإيمان والتعصب يقول شاردان في عبارته الشهيرة عن الأرض: إن عصر الأمم انتهى بلا رجعة، وإذا لم نكن في طريقنا إلى الانقراض فمهمتنا الآن التحرر من التعصب وبناء الأرض، ويؤكد شاردان على ضرورة التحرر من التعصب من أجل تأسيس الإيمان المشترك الذي يوحد بنى البشر أجمعين في وحدة إنسانية حضارية، فيلح على ضرورة الإعلاء من شأن قيمة الفرد على المستوى الكونى، أي على مستوى الأرض، كأساس الوحدة الإنسانية، وهذه القيمة هي الأساس من أجل تحقيق وعى أكثر رقيا وأكثر رحابة وشمولا، مما نحن عليه الآن، على الرغم من تباين الديانات وتعددها، وهذا الوعى الجديد هو الموحد بين البشر في إطار متجانس، وهذا التجانس لا يستبعد أحدا، بل يتكامل مع الآخر.

وفى تقديرى أن هذا الوعى لا يتحقق إلا بفکر دینی عقلانی جدید يسعى إلى تحرير الإنسان من التعصب لكى يجعله أكثر إنسانية، وهذا يستلزم التحرر من القيود اللاهوتية المتزمتة التي فرضتها جماعة من اللاهوتيين، في المسيحية، وعلماء الكلام أي الفقهاء في الإسلام، التي تتسم بالتعصب وتسعى إلى فرض تعصبها على جميع البشر في أنحاء الأرض، وهذه الجماعات نفسها هي التي اضطهدت فكر تيار دى شاردان وقاومته.

إن دعوة تيار دی شاردان إلى تحرير الأرض من التعصب قد أصبحت أكثر إلحاحا اليوم في إطار ظاهرة الكوكبية التي تنشد وحدة الإنسانية كشرط لبناء كوكب الأرض، كما أراد تیار، بيد أن الكوكبية تواجه بالمقاومة، وهذه المقاومة اتخذت طابعا عنيفا يستخدم الإرهاب كوسيلة لتدمير الحضارة الإنسانية من أجل فرض الاتجاه الأصولى الدينى المتعصب على كوكب الأرض.

وفى تقديرى أن تحقيق دعوة تيار دى شاردان، التي تنشد تأسيس تيار دينى إنسانى عقلانى يتأسس على «نظرية ابن رشد» في التأویل، فمع التأويل يمتنع التعصب، لأنه يمتنع معه فهم النص الدينى فهما حرفيا، أي فهما سطحيا لا ينفذ إلى الجوهر، والجوهر هنا هو المعنى الباطن لذلك النص. ولهذا يعرف ابن رشد التأويل بأنه «إخراج دلالة اللفظ من المعنى الحقيقى إلى (المعنى المجازی)». ويعنى بالمعنى الحقيقى المستوى الحسی للمعنى، أي المستوى الظاهری. والمعنى الحسى واحد، في حين أن المعنى الباطنی متعدد التأويل، أي أنه مع التعددية، والتعددية نسبية.

ومعنى ذلك أنه مع التأويل يمتنع الانزلاق إلى التفكير المطلق، الذي يؤدى إلى التعصب مما ينتج عنه التكفير، وعندما يتحرر الإيمان من الثقافة أيا كانت، وعندما يتحرر الإيمان من التعصب تتحرر الثقافة أيا كانت من جرثومة التعصب، لأنها لن تتوهم أنها الثقافة الوحيدة الحاصلة على حق التحكم في كوكب الأرض ومن عليه، وعندئذ تتكامل مع الثقافات الأخرى، ليس على أساس العرق أو الدين، بل على أساس العقل.

والسؤال الآن هو: كيف تتحقق وحدة الحضارة مع تعدد الثقافات؟ أو بمعنی آخر كيف تتحقق عالمية الثقافات في إطار وحدة إنسانية حضارية واحدة؟!

إذا كان تیار دی شاردان قد تناول الإجابة عن هذا التساؤل في مجال الثقافة المسيحية، فسأطرح أنا هذا التساؤل في مجال ثقافات المجتمعات التي يسود فيها الإسلام، سواء كانت عربية أو غير عربية.

ولكن لكى يكون التساؤل أکثر تحديدا، أثيره على النحو التالى:

كيف تتحقق عالمية الثقافة الإسلامية في إطار التعددية الثقافية وفى إطار الكوكبية، من أجل الوصول إلى وحدة الإنسانية؟!

الإجابة عن هذه التساؤلات تتحدد بمدى قدرة الفكر الدينى العقلانی المنشود، الذي يسعى إلى تحرير الإيمان من التعصب، على تأسيس قيم إنسانية عالمية مشتركة، وتوظيف هذه القيم في دعم الوحدة الإنسانية كما ارتآها تیار دی شاردان.

إن شرط تأسيس هذه القيم الإنسانية العالمية المشتركة يكمن في مجاوزة صورة العدو الحاكمة للثقافات في علاقتها ببعضها البعض. لأن صورة العدو تتأسس على مفهوم المطلق على المستويين: الدينى والثقافى، وهو الذي يعطى مشروعية إقصاء أي مطلق آخر مغاير، مما يفضى بدوره إلى الصراع بين الثقافات، وبالتالى إلى الإرهاب. وتأسيسا على ذلك كله، يمكن القول إنه إذا أردنا القضاء على الإرهاب، فعلينا استلهام عقل كل من ابن رشد وتيار دى شاردان.

وفى تقديرى أن هذا الأمل المنشود قد بدأ يتحقق على أرض الواقع متمثلا في «وثيقة الأخوة الإنسانية»، التي وقعها كل من فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وقداسة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، في عام ٢٠١٩. وأنا هنا أجتزء بعض العبارات الدالة على إمكانية تحقيق الفكر الدينى العقلانى المنشود كأساس لإعادة بناء الأرض على حد قول تيار دى شاردان:

«يحمل الإيمان المؤمن على أن يرى في الآخر أخا له، عليه أن يؤازره ويحبه. وانطلاقا من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعا وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته، فإن المؤمن مدعو للتعبير عن هذه الأخوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة والكون كله، وبتقديم العون لكل إنسان، لاسيما الضعفاء منهم، والأشخاص الأكثر عوزا وحاجة».

والسؤال الأخير: هل ستتحول هذه المعانى الإنسانية الراقية التي تعبر عن نوايا حسنة إلى واقع ملموس من شأنه، في نهاية المطاف، أن يقضى على ظاهرة التعصب الدينى والإرهاب، أم ستظل تلك المشاعر والنوايا مجرد حبر على ورق؟!