محمد بديع.. ذهب المرشد وبقى التنظيم منهكاً

عمار علي حسن الثلاثاء 20-08-2013 21:04

يبدو القبض على مرشد الإخوان الدكتور محمد بديع وعزله بعيداً عن مسرح الأحداث مسألة «تحصيل حاصل»، فالرجل لم يكن المتخذ الأساسى للقرار فى الجماعة، سواء قبل ثورة يناير أو بعدها، بل إن عملية اختياره مرشداً خضعت لرغبة مَنْ هم أقوى منه فى وضع وتثبيت «واجهة» تسمح لهم بتحريك الأمور من خلف الستار، وهى لعبة درجت الجماعة عليها واستمرأتها، ولاسيما أيام تولى الأستاذ حامد أبوالنصر منصب المرشد مع رجل التنظيم الخاص القوى مصطفى مشهور.

لكن القبض على بديع يمثل ضربة رمزية أو معنوية قوية للجماعة، ولا سيما أن الصورة الأخيرة التى ظهر عليها الرجل فاعلاً فى الحياة السياسية كان يحاط فيها بحرس أشداء وهو واقف على منصة رابعة.. بدا وكأنهم يقولون للجميع: «سنذود عن المرشد بكل ما نملك»، علاوة بالطبع على المكانة التقليدية للمرشد فى نفوس أفراد الجماعة، الذين يعتقدون أن اختياره يتم بناء على إلهام إلهى لأعضاء مكتب الإرشاد ومجلس الشورى، وهى المسألة التى وعاها النظام أيام حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، حين جنَّب كل من تولوا منصب المرشد على مدار ثلاثين عاماً عمليات الاعتقال التى توقفت عند مستوى نوابهم.

وهذه هى المرة الثالثة فى تاريخ جماعة الإخوان التى يودع مرشدها الحجز أو الحبس أو السجن بعد سجن المرشد الثانى المستشار حسن الهضيبى فى عهد عبدالناصر، واعتقال الأستاذ عمر التلمسانى ضمن رموز العمل السياسى والفكرى أيام حكم السادات.. لكن ما جرى مع الدكتور بديع يبدو أشد وأنكى، أولاً لأنه يأتى فى سياق مواجهة شاملة، للمرة الأولى فى التاريخ، بين الإخوان وبين المجتمع والسلطة معاً، أو بمعنى أدق كافة أركان الدولة ببنيتها المؤسسية وقدراتها على احتكار القوة ومعانيها الرمزية وحيز نفوذها الإقليمى والدولى إلى جانب الأغلبية الكاسحة من الشعب. وثانياً لأن المرشد متهم هذه المرة بالتحريض، وصادر أمر قضائى بالقبض عليه تمهيداً لمحاكمته. وثالثاً لأن القبض على الدكتور بديع لا يضع نهاية لقدرة تنظيم الإخوان على التسبب فى إزعاج أهل الحكم إنما يأتى فى وسط معركة حامية الوطيس بين الطرفين، تلقى فيها الإخوان ضربة قاسية، لكن لا تزال بيدهم أوراق عديدة يمكن تحريكها للضغط على السلطة، سواء بالتعاون مع التنظيمات الإرهابية والجماعات التكفيرية، أو بخلق مجال للضغط الخارجى على الدولة المصرية، بعد أن أصبح الإخوان بمنزلة «حصان طروادة» للمشروع الغربى فى منطقة الشرق الأوسط، أو على أقل تقدير وتعبير باتوا يشكلون ركناً أساسياً من استراتيجيات الولايات المتحدة فى العالم العربى، ورابعاً لأن «بديع» وقع فى قبضة الأمن بينما كانت وسائل الاتصال والذيوع قد بلغت مرحلة فائقة، فوزعت صور الرجل على الفضائيات وهو جالس بجلبابه الأبيض، فى عينيه وجع، وعلى وجهه أسى.. وهذه صورة ربما قُصد بها إضعاف الحالة المعنوية لتنظيم الإخوان، وهو مستمر فى خوض مواجهة مسلحة مع الشعب ومؤسسات الدولة.

وعموماً، هناك صورتان مرسومتان لـ«بديع» تقفزان إلى الذهن كلما أتى أحد على ذكر اسمه، الأولى أنه قطبى التفكير، والثانية أنه رجل منقاد وخائر الإرادة. فأما الأولى فهى صحيحة من حيث المنشأ، ولا مجال للتنطع بأن أفكار سيد قطب لم تؤثر على فريق من الإخوان، وأنها قد محيت بمجرد ظهور كتاب «دعاة لا قضاة» للمستشار حسن الهضيبى، بل إن «قطب» قد نسخ «البنا» بالمعنى الفقهى، أو حل خطاب الأول محل خطاب الثانى فى رؤوس قطاع عريض من الإخوان، بعضهم أصبح بمرور الوقت الأكثر نفوذاً فى إدارة التنظيم.

ورغم أن كثيرين، وأنا منهم، يرون أنه ليس من الإنصاف أن تلصق صورة رسمت لفرد وهو فى ريعان شبابه به بقية عمره، وهى مسألة لم ينكرها الكاتب والمؤرخ الأستاذ صلاح عيسى فى معرض تحقيقه لوثيقة عن التحقيق مع «بديع» بعد القبض عليه فى خلية 1965 حين قال: «ربما لا يكون منصفاً للرجل أن نفترض أن شخصيته وأفكاره لم يلحقهما تغيير خلال الأعوام الخمسة والأربعين، التى تفصل بين إجراء هذا التحقيق وتوليه منصب المرشد العام»، لأن فى هذا مصادرة على حق أى إنسان فى مراجعة نفسه، أو بناء قطيعة معرفية مع أفكاره السابقة إن ثبت له خطؤها.. لكن ما ثبت بصدق أن الجذور الفكرية لـ«بديع» لم تنخلع، وأنه يعيش برواسب من الماضى، بل ربما يعيش فى الماضى نفسه، وهى مسألة لفتت انتباه عيسى فقال فى تحقيقه هذا: «من غير المنصف للتاريخ أن نفترض أن أفكار وخبرة محمد بديع الشاب قد مضت دون أن تترك أثراً على شخصيته وأفكاره.. وكان ذلك ما دفعنا إلى نشر هذه الوثيقة من ذلك الزمن».

لكن يبدو أن تفاعل «بديع» مع أفكار سيد قطب لم يقف عند المستوى النظرى، إذ يمكن أن يكون قد خلب لبه سحر لغة قطب وبيانه ووثوقية ودوجمائية الخطاب الذى يطرحه، بل تعدى هذا إلى محاولة تطبيق هذه الأفكار فى الواقع المعيش، حين جاءت لـ«بديع» الفرصة كاملة بعد وصول الإخوان إلى الحكم، بل بعد سقوطهم عنه حين وقف على منصة تقاطع رابعة العدوية يحرض على العنف ويتوعد بالدم والنار.

والغريب أن «بديع» لم يستجب لنداءات العنف فى شبابه، فحين طلب منه أن يقوم بعملية إرهابية رفض، ولم يذهب إلى موعد لتلقى تعليمات حول تنفيذ هجوم مسلح ضد الحكومة رداً على حركة الاعتقالات فى صفوف الإخوان، وها هو يقول: «بدأت أفكر أن هذا العمل طائش، ويتنافى مع ما كانوا يقولون من قبل من أن الطريق لتحكيم القرآن هو إنشاء جيل مسلم»، كما أن الصورة التى ظهر عليها عقب اختياره مرشداً قدمت لكثيرين معلومات جعلتهم يتحدثون عن انفتاح الرجل وتعقله وإيمانه بالعمل السياسى السلمى والمدنى، ولاسيما أنه ليس من حق الباحثين والكُتَّاب أن يحكموا على النوايا والطوايا فيقولوا إن الرجل «إرهابى متخفٍّ»، لكن على منصة رابعة سقطت كل القناعات، وانجلت الصورة الحقيقية المخفية بوعى وفهم وتدبير.

أما تصويره على أنه رجل ضعيف، فهذا حكم ساقه «عيسى» نفسه فى وثيقته حين وصف «بديع» بأنه «نموذج للكادر السياسى الأشبه بالروبوت، فهو يتلقى الأفكار ويؤمن بها من دون مناقشة.. ويتلقى التعليمات وينفذها دون سؤال عن احتمالات النجاح والفشل، وصواب التعليمات، أو حتى موافقتها لأحكام الشريعة»، وإن كان الكلام المنسوب إلى «بديع»، فى الوثيقة ذاتها، ينفى عنه هذا الوصف، كما يُستفاد من التحقيق نفسه، فى جملته وتفاصيله، أن «بديع» كان يجيد المناورة والمراوغة، ويستخدم فطنته وحصيلته الفقهية فى صنع ردود محكمة على الأسئلة الموجهة إليه، إلا أنه لا تناقض بين الاثنين، فيمكن للفرد أن يكون تابعاً لا رأى له ولا قرار ويكون فى الوقت نفسه مراوغاً ماكراً فطناً.

لكن هاتين الصفتين لا تنفيان، بل قد تثبتان، الفرضية التى تؤكد أن «بديع» لم يكن الرجل الأول فى الإخوان، أو فرضية أخرى تبين أنه قد مارس «التقية» على أفضل وجه ممكن، ولا سيما أنه أتى بعد اعتذار سلفه الأستاذ مهدى عاكف عن عدم الاستمرار فى منصب المرشد، وهو الذى تسبب فى مشاكل جمة للجماعة من فرط صراحته ومن فعل لسانه الذى كان يسبق عقله أحياناً. وبالتالى كان المطلوب من «بديع» فقط أن يبتسم، وأن يخفى مشاعره ويوارى أفكاره على قدر الاستطاعة، وأن يتعامل مع المجتمع العام تاركاً الفرصة كاملة والمساحة مفتوحة للأشخاص المتنفذين داخل الجماعة، وفى مقدمتهم المهندس خيرت الشاطر والدكتور محمود عزت، ليتخذوا ما يشاءون من القرارات.

أخيراً يبقى أمر مهم يخص عملية القبض على «بديع» وظهوره فى لقطات فضائية على النحو الذى رأيناه جميعاً، وطالما ذكرت هذا من قبل ولا أزال، وهو أن نقد الإخوان فكراً ومسلكاً فرض عين على كل من يروم إصلاحاً سياسياً واجتماعياً لمصر ولا سيما بعد انزلاقهم إلى العنف المنظم والإرهاب وتناقضهم مع مقتضيات المشروع الوطنى، لكن الكتابة الساخرة والمتهكمة أو تلك التى تعرّض بهم وتسوقها تعليمات الأمن لا مقتضيات الضمائر ومصالح الوطن، وتجنح عما يفرضه المنهج العلمى على صاحبه من استقامة، تصب فى صالح الإخوان فى نهاية المطاف، لأنها تمنحهم تعاطفاً لا يستحقونه، وتكسبهم أرضاً ليست لهم، وقد تفيد السلطة فى إيجاد تبرير للعمل بقوانين استثنائية وتقييد الحركة المدنية وتمويت الحياة السياسية مرة أخرى، وعدم اتخاذ أى إجراءات جادة لمحاربة الفساد، والاستجابة لمطالب الثورة كاملة، وإبقاء مصر محشورة بين رجال المعبد والواقفين وراء العجلة الحربية، وكلاهما لا يملك، على الأرجح، حلاً ناجزاً يخرج البلاد من أزمتها الراهنة.

قد يكون القبض على «بديع» خطوة مهمة فى الصراع الأمنى مع الإخوان، لكنه لا يمثل شيئاً فى مواجهة فكرية حتمية وضرورية، ولا يجب أن تتوارى خلف الإجراءات الأمنية أو الاستحقاقات السياسية العابرة.