لفت نظرى خبر صغير أذاعته هيئة الإذاعة البريطانية فى برنامجها باللغة الإنجليزية الأسبوع الماضى، وكان يتعلق بمعرض لروائع الفن الأوروبى أقيم بالعاصمة الصينية بكين. تكلم الخبر عن الإقبال الملحوظ الذى لاقاه المعرض من قبل الجمهور الصينى، المتعطش لاستيعاب مبادئ وجماليات الفن الغربى رغم صعوبة تلك المهمة بالنسبة لشعب كان معظم تاريخه بعيداً كل البعد عما يحدث فى أوروبا، فبعض الذين تحدثت معهم الـ«بى بى سى» قالوا إنهم كانوا يجهلون حتى المبادئ الأساسية للمسيحية، التى قد تساعد على فهم أعمال مثل «العشاء الأخير» للفنان والعالم الإيطالى العظيم ليوناردو دافنشى.
لكن الجديد فى فكرة المعرض أنه استخدم تقنيات متقدمة- «هاى تك»- فى سبيل تسهيل مهمة المواطن الصينى فى التواصل مع منتجات حضارية لا يفهمها بسهولة، ففى هذا المعرض، الـ«موناليزا» لا تبتسم فحسب، لكنها تتحرك وتتكلم وترد على استفسارات الرواد- باللغة الصينية (الماندارين) بالطبع! وتفعل ذلك عن طريق جهاز يمكنها من التعرف على أصوات الرواد.
هكذا يمكن للمواطن الصينى التعرف بطريقة مبسطة ومسلية على تاريخ اللوحة المعروفة، والفنان العبقرى الذى أبدعها، والعصر الذى عاش فيه، والظروف المصاحبة له.. ويمكنه أن يفعل نفس الشىء مع ستين لوحة أخرى.
والمعرض مقام منذ أواخر شهر أغسطس الماضى، وإقبال الجمهور الصينى لم ينخفض بشكل ملحوظ طوال تلك الفترة، وذلك ليس بشىء غريب على شعب اهتمت النخب فيه منذ فترة بكل ما هو غربى، ليس فقط فى مجالى الثقافة الشعبية والتكنولوجيا، إنما أيضا فى المجالات المؤسسة للحضارة المعاصرة، أى فى العلوم الأساسية والفنون الجادة، فهذا الشعب هو نفسه الذى أنتج خلال العقود الماضية بعض أعظم العازفين العالميين للموسيقى الكلاسيكية الغربية مثلا، كعازف آلة التشيلو «يويو ما» وعازف البيانو «لانج لانج».
فى مصر، عندما ننظر للصين، كل ما نلاحظه هو التقدم المبهر فى مجال تصنيع التكنولوجيات البسيطة وتوزيعها على الأسواق العالمية، والذى صاحبته طفرة اقتصادية هائلة، فنتجاهل الاهتمام الجاد الموجود هناك بالعلوم الأساسية والتقدم المتواصل فيها.. نتجاهل مثلا حدثاً مهماً كإنشاء، منذ بضعة أعوام، مركزين بحثيين تابعين لمؤسسة «كافلى»، واحد للفيزياء النظرية، والآخر فى مجال الفيزياء الفلكية. وهما من المؤسسات البحثية الصينية المرموقة التى تتطرق فى أبحاثها لأساسيات المعرفة، من نظريات تطور الكون ونشأة المجرات وفيزياء الجسيمات الأولية، حتى آخر التطورات فى مجال تفسير ميكانيكا الكم ونظرية المعرفة الناتجة عنها.
ومؤسسة الفيزياء النظرية كانت موجودة بالفعل منذ عام ١٩٧٨، أى قبل الطفرة الاقتصادية بعقود، وكانت ممولة من قبل الأكاديمية الصينية للعلوم، أما التطور الذى طرأ خلال السنين الأخيرة فهو النجاح فى جذب تمويل رجل الأعمال الأمريكى (النرويجى الأصل) «فريد كافلى»، الذى شيد مؤسسة خيرية لدعم العلوم الأساسية فى العالم.
والشروط التى تفرضها مؤسسة «كافلى» لمن يريد الحصول على دعم منها (إمكانيات مادية وكفاءات بشرية... إلخ) تكاد تكون تعجيزية، وقد فشلت بالفعل بعض المراكز البحثية العالمية المرموقة فى الحصول على مثل هذا الدعم، أما المؤسسات الصينية فنجحت فيما فشل فيه الآخرون نتيجة وجود قاعدة علمية رصينة وتمويل محلى مناسب سبقا الالتحاق بمؤسسة كافلى بعقود.
إذا أضفنا ذلك إلى الطفرة الملحوظة فى مجال الفنون الجادة، نجد على الفور أن ما يطفو على السطح، ويبهر البعض من (تقدم تكنولوجى واقتصادى) فى الصين له جذور أعمق بكثير من مجرد صناعة للسلع الإلكترونية رخيصة الثمن والترويج لها فى الأسواق العالمية..
ونظرة سريعة لتاريخ اليابان الحديث ستؤكد لكل من يهمه الأمر أن التقدم الحضارى فى العلوم الأساسية والفنون الجادة قد صاحب الطفرة التكنولوجية والاقتصادية فى اليابان أيضا. النظرية هناك هى التى أنتجت عالماً مثل هيديكى يوكاوا، الذى حصل على جائزة نوبل عام ١٩٤٩، نتيجة التنبؤ بجسيم الميزون قبل اكتشافه عمليا..
والطفرة الملحوظة فى الفنون كانت موجودة منذ الخمسينيات، وأنتجت أمثال «كاباوالا ياسونان»، الذى حصل على جائزة نوبل فى الآداب عام ١٩٦٨، وأيضا السينمائى العظيم «كورو زاوا»، الذى تأثر بأعمال من الثقافة الغربية- لأمثال شكسبير ودستويفسكى- ودمجها بتراث بلاده الثرى (فحصل على جائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبى مثلا فى عام ١٩٧٥ عن فيلم ناطق باللغة الروسية!).. وأنتجت اليابان خلال تلك الفترة أيضا المايسترو الكبير سيجى أوزاوا، الذى قاد أوركسترا بوستون السيمفونى لسنين طويلة.
أعتقد أن الدرس بالنسبة لنا فى مصر فى غاية الوضوح.. طالما انبهرنا بالتقدم التكنولوجى والاقتصادى وحده، وبقشور الثقافة الشعبية المعاصرة، فى غياب أى اهتمام حقيقى بالعلوم الأساسية والفنون الجادة، سيظل الحال عندنا على ما هو عليه، ربما باستثناء تطورات سطحية واهية لا تعبر عن أى تقدم حقيقى للعقل والمجتمع المصرى..
وطالما رفضنا التواصل والتلاقى مع العالم بشكل جاد، ودمج منتجاته الفكرية بتراثنا المحلى- وهو نشاط كانت مصر رائدة فيه فى النصف الأول من القرن العشرين، لكنها فقدت تلك المكانة خلال العقود الماضية فسبقتها فيه حضارات مثل الصين واليابان، التى لم يكن لها تراث مشترك أو تواصل يذكر مع الغرب- طالما لم نفعل ذلك، فلن يكون لنا مكان فى عالم معولم يستفيد فيه البعض من الآخر عن طريق التلاقى الحضارى المتعمق الجاد.