رحيل جمال البنا... آخر أبناء أسرة مصرية معطاءة

سعد الدين ابراهيم الجمعة 08-02-2013 22:22

فقدت مصر، والوطن العربى، والعالم الإسلامى، يوم 30/1/2013، واحداً من أنبل المجتهدين الإسلاميين، وهو الشقيق الأصغر للإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م.

وأهم ما فى سيرة جمال البنا أنه رغم حُبه الشديد لشقيقه الأكبر، الذى كان يعتبره بمثابة الأب، حيث كان يفصلهما عمر زهاء العشرين عاماً، فإنه استقل مُبكراً استقلالاً تاماً عن حسن البنا، وعن الفكر والمُمارسات الإخوانية، بل كان من أكثر الناقدين لها، وللمدرسة الإسلامية التقليدية، لذلك لم تسترح له جماعة الإخوان المسلمين، كما لم تسترح له المؤسسة الأزهرية.

لم يسترح الإخوان المسلمون لجمال البنا، لأنه كان يمقت تنظيمهم الهرمى الصارم، الذى كان مثل التنظيم الشيوعى، الذى أحكمه نيقولاى لينين (1870-1924م)، زعيم الحزب الشيوعى الروسى، وأول رئيس للاتحاد السوفيتى، الذى تأسس بعد الثورة البلشفية فى أكتوبر 1917. كان لينين داهية أدرك مُبكراً أن حجم الجيوش هو نسبة عددية ضئيلة من حجم سكان أى بلد، ومع ذلك فهو الأقوى بين مؤسسات ذلك البلد، بسبب تنظيمه الهرمى، وعقيدة «السمع والطاعة» بين أفراده من جنود وضُبّاط. فهداه تفكيره أن يتمتع الحزب الشيوعى بنفس الصفتين: التدرج الهرمى، والسمع والطاعة العمياء من أفراد الحزب لقياداتهم، وبذلك يصبح الحزب الشيوعى نِداً للجيش، بل يتفوق عليه من حيث الحوافز الأيديولوجية القائمة على العقيدة، فضلاً عن أن الحزب يُعوّض ضَعف قُدراته القتالية، وضَعف قوة نيرانه بتلك الحوافز الأيديولوجية، خاصة أن معظم الجيوش النظامية تعتمد على المُجندين إجبارياً، بينما الحزب يعتمد على أعضاء انضموا إليه طواعية، وهناك فوارق ملموسة فى الأداء بين المُجبر على الخدمة فى جيش نظامى والمُتطوع بإرادته الحُرة للانضمام إلى الحزب، فالأخير أكثر كفاءة وتأثيراً فى أدائه فى أى مهمة توكّل إليه.

وقد عاش جمال البنا فى النصف الأخير من حياته كراهب مع مكتبته الضخمة فى محراب الفكر العالمى عموماً، والفقة الإٍسلامى خصوصاً، ورغم تعليمه الرسمى المتوسط، فإنه توفر على تثقيف نفسه ذاتياً. فأجاد اللغة الإنجليزية، واطلع على أمهات المراجع فى الفكر العالمى. فقرأ واستوعب الفلسفات والمذاهب الاجتماعية ـ الاقتصادية الحديثة، ولم يُخفِ إعجابه بتراث حزب العمال البريطانى، واشتراكيته المُعتدلة، وفضّلها كثيراً على الفلسفة المادية الجدلية الماركسية، وبينما اعتبر الأولى أكثر واقعية واقتراباً من نزعته الإسلامية المُعتدلة ومن الطبيعة البشرية -وجد الثانية مُغرقة فى تطرّفها وأوهامها فى إعادة صياغة مجتمع بلا طبقات، وتنشئة أفراد بلا رذائل، وفى مجتمع بلا طبقات أو استغلال، هو طوباوية جذّابة على الورق، ولكنها غير قابلة للتطبيق على الأرض. كما رأى أن منهجها الجدلى المادى الثورى ينطوى على صِراع دموى لا نهاية له بين الأفراد والطبقات والمجتمعات.

وعلى العكس من تلك الفلسفة المادية، وجد جمال البنا ضالته المنشودة فى فكر الإمام زيد بن على زين العابدين، حفيد الحُسين بن على بن أبى طالب، أى سليل آل البيت النبوى الشريف، وقد تزامن الإمام زيد بن على زين العابدين مع طالب آخر للعلم فى زمانه، وهو واصل بن عطاء، رأس جماعة المُعتزلة.

ورغم أن الإمام زيد استُشهد وله من العُمر 42 عاماً، إلا أنه فى سيرة حياته المُناضلة ضد ظُلم الأمويين، فى عهد هشام بن عبدالملك، كان معطاءً فيما تركه من تراث فقهى فى مواجهة أهل السُنّة المُناصرين للملك الأموى العضوض، ولفكر الخوارج الرافض لكل شىء فى زمانهم (منتصف القرن الأول الهجرى)، وكان الأساس فى الفكر والفقه عند الإمام زيد هو «العقل» والمنطق فى فِهم القرآن مُباشرة، وتأسيس كل الأحكام الشرعية على آياته البينات.

وقد اقتدى جمال البنا بالإمام زيد فى منهجه، وإن كان الله قد أمدّ فى عُمره إلى التسعين، أى أكثر من ضعف عُمر الإمام زيد، وهو ما مكّن جمال البنا من تأليف موسوعة «نحو فقه جديد» فى عِدة أجزاء يصل مجموع صفحاتها إلى حوالى ألف صفحة. هذا غير حوالى أربعين مؤلفاً متنوعاً.

وفى سنواته الثلاثين الأخيرة حاضر جمال البنا عِدة مرات فى رواق مركز ابن خلدون، وأبهر باحثيه بسلاسة أسلوبه، وعُمق تفكيره، وتواضعه وأبويته، فرشّحوه لعضوية مجلس أمناء ابن خلدون، وهو ما قبله شاكراً، وخلال محنة المركز، حينما قُبض علىّ وعلى سبعة وعشرين من الباحثين والعاملين فيه، دافع جمال البنا عنا دفاعاً مجيداً، وشهد لصالحنا أسوة بعملاق فكرى آخر، وهو الاقتصادى الكبير الراحل سعيد النجار، والمُفكر الاستراتيجى النابه عبدالمنعم سعيد فى ثلاث مُحاكمات إلى أن برّأتنا فى النهاية محكمة النقض، أعلى محاكم الديار المصرية. وظلّ الوفاء المُتبادل بين جمال البنا ومركز ابن خلدون إلى أن وافت المنّية مُفكرنا الإسلامى الكبير فجر يوم 30/1/2013.

وفى سُرادق العزاء تبادلت والدكتور كمال الهلباوى الذكريات والخواطر حول الفقيد، وشاركنا فى جزء من الحديث ابن شقيقة المُحامى سيف الإسلام حسن البنا، واتفق ثلاثتنا على مناقب الرجل، وعلى أفراد تلك الأسرة المصرية المعطاءة، التى تنحدر أصولها من مُحافظة البحيرة، وإن كان رائدها وأبناؤه وبناته قد توزّعوا وعاشوا بين القاهرة والإسكندرية والسعودية، وسويسرا، وكيف كان عطاؤهم لمصر وللإسلام غزيرا، وعرجنا على القيمة المركزية التى بنى عليها جمال البنا فكره فى إعادة صياغة الشريعة، ألا وهى قيمة «الحُرية».

نعم أكد جمال البنا مركزية هذه القيمة فى الإسلام انطلاقاً من التوجيه الإلهى «من شاء منكم أن يؤمن فليؤمن، ومن شاء منكم أن يكفر فليكفر»، وحِجة جمال البنا، التى يصعب دحضها هى أن الله سُبحانه وتعالى أعطى الناس حُرية الكُفر أو الإيمان بذاته الإلهية. فليس أكثر من ذلك إعلاء لقيمة الحُرية، ما دام العباد يتحمّلون مسؤولية اختياراتهم فى شؤون دينهم وشؤون دنياهم.

واتفق أحبّاء جمال البنا على تأبينه بُمناسبة الأربعين فى مقر مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية يوم الثلاثاء 12/3/2013 بمُرتفعات المقطم، وعلى مقربة من المقر الرئيسى لجماعة الإخوان المسلمين. رحم الله الفقيد وأدخله فسيح جناته.

وعلى الله قصد السبيل

semibrahim@gmail.com