دوستويفسكى

أيمن الجندي الأربعاء 26-12-2012 21:46

هذا المقال هو محاولة لتفسير خبرة نفسية مؤلمة مررتُ بها منذ أعوام طويلة. كنت فى الثامنة عشرة تقريباً حينما استعرت إحدى روايات دوستويفسكى من مكتبة دار الثقافة. كان الكتاب ضخما، يزن بضعة كيلوجرامات، مجلدا بطريقة عتيقة، مليئا بالأتربة لكنى عدت سعيدا به لأنى أعرف قيمة صاحبه. وبدأت القراءة، شدتنى أحداث الرواية واندمجت مع الأبطال. بالتدريج بدأت أدخل عالما متشابكا من مشاعر غير مألوفة.

كنت أقرأ برعب، بغرابة، بغواية، بقلق، بلذة، باستمتاع. كانت الرواية تجرنى لمناطق غائرة فى أعماق نفسى، وتجارب لم أعشها، ومخاوف ورثتها عن أجدادى. وشعرت بالقشعريرة، وانتصبت شعيرات جسدى. وهاتف يحذرنى من مواصلة القراءة، وشىء يدفعنى إلى الاسترسال. دوستويفسكى الرهيب كان معى فى الغرفة، على بعد خطوات منى: يغوينى، يراقبنى، يُعرّى داخلى، يرعبنى ويستدرجنى.

...........................

فيودور دوستويفسكى، الأديب الروسى العبقرى، المولود عام 1821، طفولته كانت بطعم الخوف، الابن الثانى لجرّاح مُدمن سريع الانفعال، الذى يعمل بمستشفى فى أسوأ أحياء موسكو حيث المجانين والقتلة، والمجرمون والأيتام، كلها أشياء أثارت قلقه، وجعلته يتساءل عن مصير الإنسان. وازدادت المحن بإصابته بالصرع لمدة ثلاثين عاما متوالية. صبغت شخصيات أبطاله بالحزن واليأس وانعدام الحيلة، انعكاسا لروحه البائسة، هناك حيث كان يقف دوستويفسكى على حافة الهاوية.

تلقى النقاد إنتاجه الأدبى بالقشعريرة!! وبدا واضحاً أن «جوجل» جديداً على وشك الظهور. وتنبأ الناقد الشهير «بالينسكى» بأن دوستويفسكى سيصبح أحد أفضل كتاب روسيا.

لكن السماء لم تصف، والسعادة لم تكتمل، بل كانت فى انتظاره خبرة مروعة لازمته حتى موته. تم القبض عليه بتهمة الانضمام لجمعية سرية تناهض القيصر، نفوه إلى سيبيريا، حكموا عليه بالإعدام. لم ينس دوستويفسكى قط هذا الصباح البارد، وندف الثلج تتساقط على وجهه، وفرقة الإعدام تشهر أسلحتها فى انتظار أمر تنفيذ الإعدام، ثم صوت حوافر تقترب، وصراخ فارس يطالب بالتوقف، فقد تم إلغاء حكم الإعدام!

ومنذ ذلك الحين، ورغم المجد والشهرة، والتقدير الأدبى الرفيع، بعد صدور أعماله الكبرى مثل: «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كرامازوف»، و«المقامر»، و«الأبله»، و«الليالى البيضاء»، وغيرها من الروائع المحفوظة فى سجل الإنسانية، لم يعد دوستويفسكى أبدا من هناك. من لحظة الإعدام والبنادق مشهرة فى صدره. ظل أسير الخبرة المروعة، متوغلا فى مناطق شائكة فى النفس الإنسانية، حيث لم يسبق لإنسان أن بلغ هذه المنحنيات أبدا ثم عاد لعالم العقلاء.

لم يستطع دوستويفسكى أن يألف البشر أو أن يألفوه! فى لحظة صدق مع النفس قال: «إننى أحب الإنسانية، غير أن هناك شيئا فى نفسى يدهشنى: كلما ازداد حبى للإنسانية جملة واحدة، نقص حبى للبشر أفراداً. إنه ليتفق كثيراً أن تستبد بى حماسة شديدة ورغبة عارمة جامحة فى خدمة الإنسانية، حتى أرتضى أن أُصلب فى سبيلها إذا بدا هذا ضروريا. ومع ذلك فلا أستطيع أن أعيش يومين متتاليين مع إنسان فى غرفة واحدة».


aymanguindy@yahoo.com