خروف الصندوق وبؤس تستيف الأوراق

عزت القمحاوي الإثنين 24-12-2012 19:53

«ارسم لى خروفاً» يقول الصبى الذى ظهر فجأة أمام طيار سقطت طائرته فى الصحراء. يرسم الرجل خروفاً، فخروفاً آخر، لا يعجب الصبي. ويهتدى الرجل إلى رسم صندوق مغلق ويقول: الخروف الذى تريده بداخل الصندوق. وكانت المفاجأة أن الصبى انشرح وقال له: هذا بالضبط ما كنت أريده!

لا أتعب من العودة إلى رواية الأطفال «الأمير الصغير» وأرى أن أى حاكم فاته قراءتها فى طفولته عليه أن يتدارك نقص ثقافته بقراءتها قبل أن يجلس على الكرسى، لكن الحكام فى العادة يفضلون أمير ميكيافيللى اللئيم على أمير سانت أكزوبيرى الصغير الحكيم.

يؤسس ميكيافيللى للحكم على قاعدة الخداع، ويختار سانت أكزوبيرى قاعدة الرضا «لكى تطاع يجب أن تكون قراراتك معقولة»، ولكى تكون قراراتك معقولة يجب ألا تقع أنت أو أتباعك فى عشق الخروف المخفى داخل الصندوق.

«الاحتكام إلى الصندوق» هو خطاب جماعة الإخوان على اختلاف منازل متحدثيها من درجة المحب إلى درجة المرشد. هذه الصيحة تملأ قنواتهم الخاصة وتليفزيون الدولة الممول من دماء الفقراء، وهى موجودة بقوة فى القنوات الأخرى، التى تستضيفهم لتحقيق التوازن المهنى. صيحة عجيبة لم تبدأ مع موقعة الدستور، بل منذ وصول مرسى إلى الكرسى. يطلقها بعضهم بوعى كامل فى محاولة للرهان على سذاجة القطاعات الأقل وعياً، بينما تطلقها العناصر المسكينة من الجماعة بإيمان مثير للشفقة، لأنه ينم عن جهل شديد بالموقع الضئيل الذى يمثله الصندوق فى العملية الديمقراطية التى تتطلب أشياء كثيرة قبل وبعد الاحتكام إلى الصندوق.

الصندوق الذى أوصل «مرسى» إلى الكرسى سبقته استماتة العسكر على تأخير الدستور، وعلى التصريح لأحزاب دينية، أحدها من بطن الجماعة، مع استمرار وجودها لنجد أنفسنا أمام الازدواج القائم حالياً، كما سبقه ومهد له إعلان العسكر الدستورى المعيب الذى حشدت الجماعة للموافقة عليه نصرة لشرع الله!

كل هذا التوجيه للمسار استهدف السيطرة على مجرى نهر الثورة، لحصر المواجهة بين رجل «مبارك» ورجل «الجماعة»، لتنتهى المواجهة بإعلان فوز «مرسى» تسبقه ديباجة توحى بفوز «شفيق». وهذه صفحة ستظل لغزاً. ومرشحو القوى المدنية مسؤولون كذلك عن تشتيت الأصوات بكل تأكيد. كل ذلك لا يهم الآن، المهم هو أن الصندوق الذى أتى بـ«مرسى» كان تتويجاً لإجراءات غير ديمقراطية سبقته، والصندوق الذى مرر الدستور سبقته وقائع سرقة بالإكراه، وكلا الصندوقين لا يمكنهما أن يؤسسا شرعية.

بعد إعلان فوز «مرسى» لم يصبح رئيساً فعلياً إلا بعد أن أقسم على حماية الوطن والدستور، وهكذا فاليمين جزء من النتيجة، ويتمم التعاقد بين الرئيس والشعب، فتكون له الطاعة طالما التزم بما أقسم عليه، وينفك الشعب من الطاعة إذا تم الحنث باليمين.

تجاهل هذه الحقائق يجعل من «شرعية الصندوق»، التى يتشبث بها الإخوان عبادة وثنية لن تجدى الكثير من المؤمنين، لكنها تضع دعاتها فى موضع الشفقة وتذكر بالمثل الشعبى غير المهذب «عمر جحا ما شاف...»

يبدو إصرارهم وكأنهم لم يروا الصندوق من قبل، لكنهم ينقسمون بين عارفين تركوا «الأمير الصغير» عامدين واختاروا أساليب ميكيافيللى، وبين جهلاء يتم استخدامهم، بعد أن فرضوا عليهم مبدأ التفكير داخل صندوق مغلق، وأوهموهم بأن نتيجة الصندوق مقطوعة الصلة بما قبلها وما بعدها!

وقد فاقت الخطايا حول صندوق الدستور ما علق بصندوق انتخابات الرئاسة، ومن المدهش ألا ترتدع القيادة الميكيافيللية، رحمة برجل القصر الذى انفض عنه مستشاروه ونائبه، ورحمة بشباب الجماعة الذين يفرضون عليهم المواجهة مع شباب الثورة باسم الدفاع عن شرعية أبدية متوهمة!

ومن المدهش، ألا يأخذوا عبرة من «مبارك» الذى ترك ابنه يعبث بشرعيته، وكانت كل الصناديق مستوفاة للشكل، وكانت جماعة الابن المحظورة الآن تطنطن بكذبة «الاحتكام للصندوق»، لكن تستيف الأوراق لا يؤسس شرعية.

ومن المدهش أننى كتبت هذه الملاحظة بالضبط تعليقاً على أسلوب «مبارك» فى بناء شرعية على الورق. وأرشيف «المصرى اليوم» موجود.. فليرجع إليه الميكافيلليون الجدد، لعلهم يفقهون.