قلتُ للعصفور فى لهفة: «أيها المعانق للريح. يا من تحررت من ثقل الأرض وأغلال الجاذبية. خبرنى أيها العصفور ماذا علمتك الحياة؟». قال العصفور فى حنكة: «علمتنى أن مجرد وجودنا على قيد الحياة خبر سعيد! وأننا سلالة الناجين المحظوظين». قلتُ فى دهشة: «ألغزتَ يا عصفور». سألنى فى هدوء: «متى عاش جدك الأول الذى بدأت منه سلالتك البشرية؟». قلبتُ كفى معترفاً بجهلى، وقلتُ: «أظن أنه من عهد سحيق». قال: «فكم بينك وبين جدك الأول؟». قلتُ: «عدد لا يُحصى من الأجداد». قال: «تخيل لو مات واحد فيهم قبل أن ينجب، هل كنتَ ستخرج للحياة؟». قلت وقد بدأت أفهم: «كانت سلالة أجدادى ستنقطع على الفور، وأُصبح غير موجود». قال: «فما احتمال أن يموت واحد فيهم؟». قلتُ وقد هزنى حديثه: «احتمال كبير جداً. ما أكثر أسباب الوفاة!».
نظر العصفور فى شجن إلى غصن الشجرة، وقال: «كانت البيضة التى خرجتُ منها مجاورةً لبيضة أخرى. لكن صبياً شقياً صوَّب الحجارة صوب العش فهشمتها، ونجوتُ أنا. مات شقيقى قبل أن يعانق الحياة». قلتُ وقد أعجبنى حديثه: «وهل ترى الحياة تستحق الحياة؟». قال وهو يتنهد: «كل هذا الجمال من حولك وتسأل!. تخيل لو اختفت الألوان من العالم. لو اختفى اللون الأخضر من الأشجار! أو صوّبتَ نظرك للسماء فوجدتها ترتدى لون الحداد!». قلت مستفظعاً: «أظن أنه أمر يدفع للاكتئاب». قال العصفور مؤكداً: «الحياة عذبة ساحرة، صدقنى». قلتُ مقاطعاً: «لكنها مليئة بالأحزان». قال العصفور بلهجة قاطعة: «الحياة تُصلح نفسها بنفسها. ومهما بدا لك أنها توقفت فإنها لابد تسير. علمتنى الحياة أن أغلب ما نحزن من أجله أوهام. وحين تُرزق المصيبة فإنك تُرزق معها الصبر، أما توافه الأحداث فضنينة بالعزاء!».
قلتُ: «كلامك أيها العصفور طيب وملىء بالحكمة». قال: «اسع وراء الفرح، وإن لم تجده فاصطنعه! فالحياة هى ما تعتقده عنها وليست ما هى بالفعل! لو اقتنعت بأنك حزين فلن تشعر بسعادة أبدا مهما حُزتَ من أسباب السرور. وإذا تفاءلتَ عشتَ سعيداً مهما توالت الخطوب».
سألته: «حدثنى عن أكثر ما يسعدك». قال: «أن أقف على الغصن مستمعا إلى تسبيح العصارة الخضراء تمجد ربها وهى تصعد فى الغصون. أن أصغى إلى حفيف الأوراق تنشد معزوفة حب رقيقة لا تسمعها إلا العصافير».
سألته: «من أكثر من تحبه فى هذه الحياة؟». قال على الفور: «الله». وسكتُّ وصمتَ العصفور، ولم يعد هناك ما يُقال. كان الصباح الشتائى ينفث سحره، ويشيع فى القلب الرضا. واقتربت سحابة تطفو فوق أثير أزرق. وكأنها بساط الريح ينتظر ركوبنا ليحملنا إلى حيث نريد. وتملكتنى غبطة سماوية فضحكتُ، فاقتربت السحابة أكثر! وسمعتُ صوتاً يقول لى فى وضوح: «تمنّ، فلك على الله ما سألت».
قلتُ وأنا أحاول أن أتماسك: «كفانى الكريمُ السؤال». ولم أدر هل بكى العصفور أم بكت السحابة، أم أننى الذى بكيت؟!.