وسيموت مبارك مطمئن الضمير

حاتم سعيد الثلاثاء 18-12-2012 21:07

في العام 3300 قبل الميلاد، نجح «ميني» في توحيد القطرين الجنوبي والشمالي وضمهما إلى مملكة تحت راية موحدة، ليشكل بعدها أول عواصم أقاليم عرفها التاريخ، فأثنى عليه شعبه وسموه «مينا»، نسبة إلى مصدر اسم «ميني» الذي يعني في المصرية القديمة «أسَّسَ أو شيّدَ»، واستمر الاسم لسنوات بين المصريين إلى أن دخلت المسيحية وأصبح مدلوله في اللغة القبطية المصرية يعني «ثابت أو راسخ»، ومن المؤكد أن المصريين القدماء لم يتوقعوا يومًا، أن يُهزم اسم مليكهم أمام «ماسبيرو» في معركة غير متكافئة مع مدرعة حربية تنتهي بمقتله، أو أن يُسحَل أمام «الاتحادية» ويدَّعي فقدان الذاكرة خشية أن يعلم سُجانه أنه أحد أتباع بشارة عيسى، ويُفضَح، ويُضرَب، ويُهزم، ويُقتل في معركة ثانية غير متكافئة..

ولم يكن «مينا» الملك بعبقريته، ولا عيسى الرسول ببشارته، يتخيلان أن يصل الحوار يومًا بين من وحدهم الأول، ومن عاش بينهم الثاني، إلى أن يهدد المصري عبدالله بدر، الداعية، المصري هاني رمزي، الفنان، قائلًا: «مالكش دعوة بجماعة الإخوان المسلمين يا نصراني أحسن تلاقي عربية بتطبق على مراوحك»، ليؤيد فكرته في البرنامج نفسه مصري آخر يدعى المستشار بدوي قائلًا :«عيب لما واحد نصراني زي هاني رمزي يستهزأ بجماعة الإخوان المسلمين ورئيس الدولة»، وكل هذا لا لشيء إلا لقيام النصراني هاني رمزي باستخدام حقه الدستوري في التعبير عن رأيه خلال برنامج تليفزيوني يقدمه، وهو الحق الدستوري نفسه الذي يتيح لأي صحفي شريف مزاولة عمله بما يراه سبيلًا للوصول إلى الحقيقة، وهو ما انتهجه المصري الصحفي الحسيني أبو ضيف أمام قصر الاتحادية، إلا أن القدر أوقعه بين فريقين مصريين يتقاتلان، فوقع شهيدًا ممسكًا بسلاحه الصحفي متعدد اللقطات.. كاميرا ديجيتال..

وقبل طوافه الأخير حول قبلة الثوار محمولًا على الأعناق استعدادًا لصعود روحه، وقف جسد «أبو ضيف» على سُلَم نقابة الصحفيين يستمع إلى الهتافات وهي تدوي: «يسقط يسقط حكم المرشد.. يسقط يسقط حكم الإخوان»، ليذكر الجميع أن السُلَم نفسه شهد هتافات مماثلة من المصريين الإخوان قبل أقل من 24 شهرًا فقط، عندما كانوا ينادون بسقوط المصري «مبارك» الرئيس، وقد ملأ صدى أصواتهم المنادية برحيل النظام سُحب السماء، بعد أن فقد «مبارك» ميزان العدل ولم يعد يمتلك المقدرة على ما يساعده في حكم البلاد، فأوكل إلى ابنه إدارة شؤون المصريين، تمسكًا منه بمُلك «مينا» القديم..

ونجحت ثورة المصريين، واحتفلوا جميعًا بانتصارهم السلمي، وجلسوا يلتقطون أنفاسهم، ويتفانون في سرد أساطير بطش وجبروت «مبارك» وعصابته خلال 30 عامًا، وقصَّ كل منهم كيف كان تكميم الأفواه في عهده، وأسلوبه في استخدام ثغرات القضاء لإغلاق الصحف عن طريق زبانية الحزب الوطني، وتعرض نظامه الدائم إلى الصحفيين المناهضين ضد سياساته، وفرضه رقابة صارمة على المحتوى السينمائي والتليفزيوني لدفن ما قد يفتح وعي المصريين، وتحجيمه المحطات الفضائية لمنع طرح رؤى أخرى، ومنعه لكل نقد قد يمس شخصه أو رجاله على شاشة التليفزيون المصري، واضطهاده غير المعلن للمصريين المسيحيين وعدم الالتفات إليهم إلا في الشدة، ونفوذ رجاله المقربين الممتد في كل بقاع مصر، وتكليفه لمجموعة أشخاص ليشكلوا حائط الصد الدفاعي الأول ضد كل من يهاجمه، وعدم اهتمام نظامه بتنفيذ أحكام القضاء، وعدم تقويمه لابنه كلما أساء إلى المصريين، واختياره الدائم لأهل الثقة دون أهل الخبرة، وتحويله الجرائد والمجلات القومية إلى آلة مدح وثناء لجلال خطواته وابتساماته، وتكريسه لكل الوزارات لتنفيذ ما يفيد بقاءه على الكرسي، وتمسكه بأن يكون لحزبه الأغلبية في المجالس النيابية، وخطاباته المتكررة التي لا علاقة لها بالواقع، وتعديله للدستور بما يضمن تنفيذ خطته السياسية، واستخدامه الدائم لفزاغة الإخوان المسلمين لإرهاب المصريين، وعدم تدخله وصمته إزاء اقتتال المصريين في ميدان التحرير ما بين مؤيد له ومعارض، فيما عُرف فيما بعد بـ«موقعة الجمل»..

المهم، أبعد المصريون الماضي عن أنظارهم، وتنهدوا طويلًا وجلسوا في ميدانهم ينتظرون إلي مصر الجديدة الذي سيخرجها وإياهم من الظلمات إلى النور، ليبدأوا معًا عهدًا جديدًا لا يوجد به ما كان من «مبارك» ورجاله، ليأتي لهم محمد مرسي رئيسًا، تقيًا، مؤمنًا، مقسمًا، واعدًا الجميع بالعدل والمساواة وعدم تكرار حقبة عقود ثلاثة مضت، ليبدأ ولايته في الأول من يوليو من عام 2012، متمسكًا بمحاكمة النظام القديم على جرائمه..

وفي أقل من 6 أشهر من حكمه، أظهر «مرسي» تفوقًا واضحًا على «مبارك»، ونجح في إثبات أنه خُلق ليكون رئيسَا، ولم يكن يومًا تلميذًا، بل هو أستاذ الأساتذة، وبحكم دراسته للهندسة في الولايات المتحدة، استطاع أن يعبر بالمصريين 30 عامًا كاملة في 180 يومًا فقط عبر آلة زمن سينسب التاريخ إليه براءة اختراعها دون منازع.

وفي داخل آلة الزمن، أجلس مرسي المصريين على الأرض يشاهدون فيلمًا لعبوا فيه أدوار البطولة دون أن يدروا، دارت فكرته بين مزج ما مضى بما هو آت، بطريقة فلاش باك مستقبلية لم يعرفها العالم بعد، تعاد خلالها الأحداث نفسها التي وقعت من «مبارك»، مع اختلاف الشخصيات والأزمنة وبعض المسميات، يأتي مرسي على رأسها، بداية من تكميم الأفواه بالترهيب في عهده، وتعرض نظامه للصحفيين والإعلاميين المناهضين ضد سياساته، مرورًا بمنعه لكل نقد قد يمس شخصه أو رجاله على شاشة التليفزيون المصري، وتكليفه لمجموعة أشخاص للدفاع عنه ضد كل من يهاجمه، وتمسكه بأن يكون حزبه صاحب الأغلبية في المجالس النيابية، وخطاباته المتكررة التي لا علاقة لها بالواقع، وتعديله للدستور بما يضمن تنفيذ خطته السياسية، واستخدامه الدائم لفزاغة الفلول لإرهاب المصريين، وانتهاء بعدم اهتمامه بتنفيذ أحكام القضاء، وعدم تقويمه لابنه كلما أساء إلى المصريين، وأخيرًا عدم تدخله وصمته إزاء اقتتال المصريين في شارع الميرغني ما بين مؤيد له ومعارض، فيما عُرف فيما بعد بـ«موقعة الاتحادية»..

لا وجود لفوارق سياسية بين مبارك ومرسي، فكلاهما سخَر كل الأدوات المتاحة له ليدور النظام في الفَلك السياسي الذي يحدده حسب احتياجاته، وكلاهما استخدم كل المبررات لتمرير قوانين أو ما يشابهها، وكلاهما لم يحترم القضاء، وكلاهما لم يحترم القانون ولا الدستور، وكلاهما رفع الضرائب، وكلاهما اقترض بمليارات الدولارات، بل وكلاهما صلى أمام الكاميرات، وكلاهما مسؤول عن قتل شباب كانوا يدافعون عما يؤمنون به..

لا أعتقد في وجود سند قانوني يسمح لأي مذنب بمحاكمة مذنب آخر على تهم يفعلها، لا لشيء سوى أن شرعية تبوئه صحيحة، لذا فإن الفارق الوحيد الحقيقي بينهما هو أن الأول كان يحترم القضاء، أما الثاني فلم يخش وجاء لينتقم منه، رغم تأكيداته المستمرة على نزاهة القضاة والقضاء، ويبدو أن مرسي أبدًا لم ينس أن أول صراع في تاريخ الإخوان المسلمين كان مع القضاء عندما قتلوا «الخازندار»، لذا رأى ضرورة تحجيم القضاء والمحكمة الدستورية العليا..

أرى «مبارك» يجلس الآن في مستشفى السجن يتابع كل ما يحدث عبر شاشة الفضائيات قرير العين، ينتظر ملك الموت وتعلو وجهه ابتسامة هادئة، وغاب عنه الهاجس البشع الذي تملكه بعد أشهر تنحيه الأولى من كونه ظلم المصريين خلال فترة حكمه، وأنه لم يكن حاكمًا عادلًا أساء التصرف في أمور البلاد، لكنه ومنذ تولي مرسي للحكم، لم يعد يهاب الموت، ولم يعد يأنبه ضميره، فقد تأكد أن ما فعله خلال 30 عامًا، فعله مرسي في 6 أشهر فقط، وبذلك فهو لم يكن ظالمًا، هو حبس الإسلاميين وإخوانهم عندما استطاع، والإسلاميون سجنوا الحزب الوطني وأعوانه عندما استطاعوا، إلى أن وصل إلى نتيجة أراحته.. لا علاقة للإسلام بسجنه، ولا بحكم بمصر، وأنه لم يكن كافرًا..

هنا.. سرت في جسده طمأنينه لم يشعر بها منذ تولي رئاسة مصر بعد اغتيال أنور السادات على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة التي كفرت كل شيء، بداية من المتبرجات، وصولًا إلى التماثيل والبيوت الفرعونية التي بناها قدماء المصريين في أرجاء مصر، بعد أن وحدهم «مينا» الملك تحت راية واحدة، حكم خلالها المصريين من قلعة «الجدار الأبيض» التي بناها في «ممفيس» أو «ميت رهينة» بالجيزة حاليًا، ونجح في إنشاء أول دولة مؤسسية عرفها التاريخ، ليأتي مرسي بعد 5000 عام أو أكثر ليحكم أحفاد «مينا» من «قصر الاتحادية الأبيض» أيضًا، لكن شتان ما بين مملكة «مينا» ومملكة «مرسي»..