كانت السيوف تتقارع فى لحظة صدق نادرة، تُوهب له الحياة بعدها أو يخترمه الموت. الصعاليك الفقراء المستضعفون ينشدون جنة عرضها السماوات والأرض وعدهم بها محمد! أما هو، عمرو بن هشام سيد بنى مخزوم، أو أبوجهل كما سماه المسلمون، ففى النار كما يوعده محمد. لشد ما يمقته صادقاً كان أو كاذباً. يذكر أنه قال لنديمه فى لحظة صدق: «والله إنى لأعلم أنه لَنبىٌّ، ولكن متى كنا لبنى عبد مناف تبعاً؟!». وقال له أيضا: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعَموا فأطعمنا، وحمَلوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسى رِهان، قالوا: منا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه!».
اندفع إلى قلب المعركة. معركته الشخصية التى لا مناص أن يخوضها. معركة ضد محمد ورب محمد. لماذا لم يكن رسول هذه الأمة؟ هو الشجاع حد التهور، الكريم حد السفه، العزيز حد الكبرياء.
لم تتوقف حربه للإسلام على إيذاء من أسلم، أو السعى إلى قتل محمد غير مبالٍ بانتقام بنى هاشم، وغالباً ما سيقتلونه. فليمت ولكن بعد أن يموت محمد أولاً. تقارعت السيوف، اشتبكت الرماح، أيقن بالموت القادم والسيف بحده الرهيف يشق الهواء صوب عنقه. بعدها لم يشعر بشىء.
كانت مكة تقترب. غمرته دوامة من الذهول وعدم التصديق. أنوار ساطعة فى عمق الليل. بنايات هائلة الارتفاع، أعلى من الكعبة ذاتها. متى حدث كل هذا التغيير؟
كان الذهول الآن هو سيد الموقف. السيارة تخوض فى شوارع المدينة توطئة أن تقترب من الكعبة. هبط السيارة فى ذهول. لم يطالبه سائق المركبة بأجر. الناس ينظرون لثيابه فى دهشة ويرجحون أنه بدوى! دخل صحن الكعبة وشرع ينظر حوله. أذهله الرخام الأبيض والمآذن العالية. أذهله تلاحم الأجساد البشرية كلهم يرتدون زى الإحرام الأبيض! أدهشه الهواء البارد المعطر. أدهشه الصوت المنساب من مكبرات الصوت. أدهشته الأضواء المتلألئة فى كل مكان. عهده بمكة حين تركها ذاهبا للمعركة النوق والحمير والأسواق المنصوبة والخيام. عهده بها الرمال والصحراء والبدو الرحّل والفرسان. وإذا امتلك أحدهم مائة ناقة كان بالغ الثراء.
كان الآن قد أدرك أنه فى زمان غير زمانه! وأنه مات وبُعث من الموت. وفجأة، ووسط ذهوله الشديد ارتفع صوت الأذان لا يدرى من أين؟ ما هذا الذى يسمعه؟ «الله أكبر»! هكذا كان يصرخ العبيد حين يسترسل فى تعذيبهم! «أشهد أن لا إله إلا الله»! هذه هى التى طلبها محمد، وزعم أنهم سيملكون بها العرب والعجم، فأبوها عليه! «أشهد أن محمداً رسول الله»!؟ أهكذا يكون ليتيم بنى هاشم كل هذا الصيت!؟ كل هذا القدر! كل هذه المكانة!!
جرفه سيل البشر فانجرف معه. حاول أن يثبت فى وجه السيل العَرِم لكنه فشل. الشىء الوحيد الذى ثبت هو حقده تجاه محمد، الراسخ فى قلبه حتى الموت.