البيان الصادر عن القوات المسلحة، أمس، يحمل العديد من المعانى، ويؤكد مجدداً ثوابت الجيش المصرى، التى شكلت نهجاً فى التعامل مع المتغيرات الداخلية والإقليمية، كلما اعتلت المخاطر هذا الوطن، وهددت أمنه القومى.
لقد جاء البيان الذى تلاه المتحدث العسكرى الرسمى للقوات المسلحة، فى لحظة تاريخية فارقة، دخلت فيها البلاد إلى منعطف خطير يهدد وحدتها، ويكاد يعصف بكيانها، بعد أن تجذر الانقسام بين قواها السياسية وامتد إلى الشارع المصرى، فى صورة لم يشهدها تاريخ هذا الوطن الذى ظل محافظاً على ثقافته وقيمه الأصيلة فى التسامح والسلام بين أبناء الشعب الواحد، محتكماً دوماً فى خلافاته إلى الحوار كوسيلة أساسية، مهما اشتدت درجة الخلاف.
وليس من شك أن القوات المسلحة ظلت تتابع بقلق الأحداث التى شهدتها البلاد، خلال الأيام الماضية، وتحديداً فى أعقاب صدور الإعلان الدستورى الأخير من رئيس الدولة، وما تلاه من إصدار دستور لم ينل التوافق الوطنى بين فئات الشعب المختلفة، غير أن القوات المسلحة ظلت بمنأى عن التدخل فى هذه الأحداث، إيماناً منها بدورها فى حماية الأمن القومى للبلاد، والابتعاد عن اللعبة السياسية.
وعندما تداعت الأحداث، وتحولت المظاهرات السلمية إلى عنف ودماء، وبعد أن حوصر العديد من المؤسسات والمنشآت، واشتدت لغة التهديد والوعيد، وسقط العديد من الشهداء، ومورست عمليات بلطجة ضد المعارضين وأيضاً المؤيدين.. كان طبيعياً أن تلجأ القوات المسلحة إلى إصدار بيان حاسم يأتى استكمالاً لإشارات سابقة صدرت وأكدت فيها انحيازها للشعب ولحماية الوطن.
لقد تضمن البيان الصادر، أمس، دلالات مهمة، ورسائل متعددة وإشارات لا تخلو من معنى كان من أبرزها:
أولاً: تعبير الجيش المصرى عن قلقه الشديد إزاء ما تشهده البلاد من تطورات خطيرة تهدد بالانقسام الذى يتصاعد، إلى حد تهديد أركان الدولة المصرية والعصف بأمنها القومى، وهو بذلك يؤكد أن تطورات الأحداث وما أسفرت عنه إنما تدخل فى صميم مسؤولية القوات المسلحة فى المحافظة على أمن البلاد والحيلولة دون الانقسام، وهو بذلك يؤكد أنه معنىّ بما يجرى، وأنه لن يسمح بالانهيار الذى قد ينجم عن الأحداث التى تشهدها البلاد، وأن تدخله وارد، فى حال استمرار الأوضاع التى تهدد كيان الدولة المصرية.
ثانياً: أن القوات المسلحة تؤكد أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة لإحداث التوافق المأمول بين القوى السياسية المتصارعة، وأن الجيش لن يسمح أبداً بإدخال البلاد إلى نفق مظلم يؤدى إلى نتائج كارثية، وهى رسالة موجهة للطرفين، وتحديداً للطرف الذى بيده الحل، والذى أدخل البلاد إلى نفق مظلم بسبب إصراره على تجاوز الإعلان الدستورى وصيغة التوافق التى تم الوعد بها فيما يتعلق بالدستور.
ثالثاً: أن تحذير الجيش من انزلاق البلاد إلى خطر التقسيم والفوضى، خاصة فى ضوء ما تشهده الساحة الداخلية والإقليمية والدولية من تطورات بالغة الحساسية يعنى أن الجيش يدرك أن هناك مخططات تستهدف الأمن القومى للبلاد، ويحذر من انزلاق الوطن إلى حروب وصراعات قد تودى بوحدته، وتحقق أهداف القوى التى لا تريد أمناً ولا استقراراً لهذا الوطن.
رابعاً: أن التحذير الذى تضمنه البيان يعطى إشارة واضحة لصناع القرار السياسى فى البلاد ولغيرهم بتجنب الوقوع فى تقديرات وحسابات خاطئة تجعلهم لا يفرقون بين متطلبات معالجة الأزمة الحالية بكل ما تستدعيه من الحرص على روح التوافق وإعلاء المصلحة الوطنية وبين الثوابت الاستراتيجية المؤسسة على الشرعية القانونية والقواعد الديمقراطية التى تم التوافق عليها، وقبِل الجميع التحرك إلى المستقبل على أساسها.
وأعتقد أن البيان يعنى هنا مضمون الإعلانات الدستورية الصادرة آنفاً، بما تضمنه من حرص على الشرعية، وعلى احترام مبدأ الفصل بين السلطات، وعلى التوصل إلى صيغة دستور توافقى بين الجماعة الوطنية يحافظ على الثوابت، ويؤكد مدنية الدولة التى سبق أن اعتبرها الجيش قضية أمن قومى.
خامساً: أكد البيان أن القوات المسلحة ليست بعيدة عن الهم الوطنى، وأن عودتها إلى ثكناتها لا تعنى التخلى عن رسالتها فى المحافظة على أمن وسلامة الوطن والمواطنين، إلا أنها تنأى بنفسها عن أى خلاف سياسى تشهده الساحة، وتدرك أن مسؤوليتها محددة فى الحفاظ على مصالح الوطن العليا وحماية منشآته ومؤسساته.
إن ذلك يعنى باختصار أن الجيش يشعر بأن البلاد تمضى سريعاً نحو المخاطر التى تهدد كيانها وأمنها القومى، خاصة فى ضوء الأحداث التى شهدتها البلاد، خلال الأيام الماضية، وما يمكن أن تشهده فى الفترة المقبلة، فى ضوء فشل الحوار الوطنى واستمرار حالة الاحتقان فى البلاد.
من هذا المنطلق فإن رسالة الجيش تحمل معنى واحداً ووحيداً أن الجيش لن يسمح بانهيار البلاد أو سقوطها فى قبضة تيار يعصف بالدستور والقانون، ويفتح الطريق أمام مزيد من الانقسام.
لقد أراد الجيش أن يؤكد، من خلال هذا البيان، أنه إذا كان قد نأى بنفسه عن الشأن الداخلى، إلا أنه لن يصمت أمام أى مخاطر تهدد الدولة وتهدد الشعب ومكاسبه التى تحققت بفعل انتصار ثورة 25 يناير.
لقد جاء هذا البيان ليبدد الكثير من الغيوم وعلامات الاستفهام حول موقف الجيش مما تشهده الساحة المصرية وتفاقم الصراع وحصار المنشآت وتزايد مساحة الانقسام فى البلاد، ليؤكد مجدداً أن الجيش لن يسمح بتغول سلطة على بقية السلطات، وليؤكد أن الأمن القومى لمصر هو مسؤولية القوات المسلحة وصميم عقيدتها.
لقد راح البعض يروج فى الآونة الأخيرة أن الجيش المصرى سينأى بنفسه بعيداً عن الساحة، بعد الإهانات التى وجهت له، رغم دوره التاريخى فى حماية الثورة والانتصار لها، إلا أن البيان الصادر، أمس، أكد أن الجيش سيبقى حارساً لأمن البلاد من أى تهديد تتعرض له.
صحيح أن هناك من سيسعى إلى تحليل البيان بنظرة تآمرية، وصحيح أن هناك من سيحرض عليه، كما حرضوا ضد وزير الداخلية اللواء أحمد جمال الدين، واتهموه بالتقاعس عن مواجهة المتظاهرين السلميين، إلا أن القوات المسلحة تنطلق فى هذا البيان من ثوابتها الأساسية ودورها الطبيعى فى حماية الوطن وأمنه القومى.
إن تدهور الأوضاع فى البلاد، واستمرار حالة الاحتقان والعنف سوف يكون مدعاة لتدخل صارم من الجيش لإنقاذ البلاد فى إطار يحمى أمنها ويحافظ على وحدة الشعب والكيان، خاصة أن هناك قوى معادية تترقب تردى الأوضاع، لتفرض شروطها على مصر وعلى أمنها القومى فى سيناء.
وإذا كان لدى الجيش معلومات عن مخططات مريبة تستهدف أمن البلاد، فمن الأولى أن يحذر، وأن يطالب الجميع بالجلوس إلى مائدة الحوار، لكن فى إطار يسمح بالتوافق، خاصة أن البلاد تتعرض للانقسام من جراء تغول السلطة التنفيذية على ما عداها، وتسعى إلى توظيف الدولة لحساب الجماعة، وتعصف بالدستور والقانون، وهذا أمر يستوجب العودة إلى ما تضمنه الإعلان الدستورى المستفتى عليه من الشعب، والحرص على إصدار دستور توافقى يؤكد الثوابت، وينال موافقة الجماعة الوطنية.
بقى القول أخيراً إن البيان أكد مجدداً أن المؤسسة العسكرية تنحاز دائماً إلى شعب مصر العظيم، وتحرص على وحدة صفه، باعتبارها جزءاً أصيلاً من نسيجه الوطنى، وهو ما تأكد خلال الأحداث التى مرت بها مصر عبر السنين.
وهو فى هذا إنما يجدد العهد ليؤكد أن الشعب هو أصل الشرعية، وأن انحياز الجيش إلى الشعب هو الخيار الصحيح، وأنه لهذا السبب كان موقفه واضحاً فى مواجهة نظام مبارك وانحيازه للثورة المصرية فى 25 يناير.. وكل ذلك بالتأكيد لا يخلو من دلالات ومعان.