المواطنة في مجتمعات أوروبية وإسلامية (3-3)

جمال البنا الثلاثاء 06-11-2012 21:20

إذا كانت معاهدة المدينة تمثل اللقاء الأول بين الإسلام واليهودية، وأن الإسلام فى هذا اللقاء منح اليهود المواطنة الإسلامية، شأنهم شأن الأنصار والمهاجرين، فإن اللقاء الثانى بين الإسلام والمسيحية كان لقاء الرسول بنصارى نجران، ونجران هذه على الحدود بين العرب واليمن، وكان بها منطقة مأهولة بالمسيحية ولهم بطارقة وأساقفة وكنيسة خاصة بهم، ولما بُعث الرسول وعلموا بذلك أرادوا أن يقوموا بمباهلته، أى إجراء مبارزة فكرية بين الإسلام والمسيحية، وبالفعل قدم وفد كبير منهم إلى الرسول، الذى استضافهم فى المسجد، ولما حان وقت صلاتهم صلوا فيه وأدهشتهم سماحة الإسلام، فعقدوا العزم على التخلص من المباهلة الثقيلة، فجاءوا فى اليوم الثانى وقالوا للرسول: ألستم تقولون إن عيسى بن مريم إنما رسول من الله وكلمة منه وإنه أيده بروح القدس؟.. فقال المسلمون: بلى، فقالوا: فنحن لا حاجة لنا إلى مباهلة، وأرسل معنا رجلاً من أتباعك الأوفياء ليوقع بيننا وبينك عهداً، فسُرَّ الرسول بهذا وأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح الذى وقع معهم عهداً يعترفون فيه بسيادة الرسول، وتقديم جزية سنوية، وهكذا تحولت المباهلة إلى معاهدة.

إذا كان الإسلام قد وسع أن يبسط مواطنته على يهود ومسيحيين، فهل يختلف موقف المسيحية عنه.. فى هذا يرد على ذلك رجلان من رجال المسيحية أحدهما من الكنيسة الكاثوليكية والثانى من الكنيسة الأرثوذكسية:

الأول من هذين هو المونسنيور باسيليوس موسى، وكيل الأقباط الكاثوليك فى مصر فى سلسلة من المحاضرات ألقاها فى أعقاب ثورة 1919م، وقد جمعت هذه المحاضرات فى كتيب صغير حمل اسم «الدين والوطنية» صدر فى القاهرة سنة 1920م.

ومن أهم ما عالجه الكتاب نقطتان:

الأولى: أن الدين يأمرنا بمحبة وخدمة الوطن رغم الاختلافات الدينية بين أبناء الوطن الواحد على أساس أن الوطنية - وهو ما ينطبق على المواطنة - شىء، والدين شىء آخر، وبالتالى فلا تنازع بينهما.

والثانية: أنه ليس من مسوغ يسوغ التساهل الدينى مراعاة لخدمة الوطن، بل إن ذلك التساهل يكون ضربة قاضية على الوطنية الصادقة.

وقد عالج المؤلف النقطة الأولى من منطلق أن الدين والوطنية شيئان متميزان لا يتنازعان إلا إذا أساء الإنسان فهمهما، أو إذا تعمد الإساءة إلى كليهما.

ويرى المؤلف أن هذا المبدأ كان يقضى على حرية الضمير ويدفع الفاتحين إلى إجبار المغلوبين على اعتناق دينهم، ولم يشذ عن هذه القاعدة الرومان.

ويوجه المؤلف النظر إلى أنه رغم زيادة عدد المسيحيين وانتشار المسيحية فى مختلف مستويات الناس ومسالك الحياة، فلم يخطر ببال هذه الجموع، التى لا عداد لها أن تثور يوما من الأيام فى وجه الدولة أو وجه ملوكها، بل صبر المسيحيون على الاضطهاد وظلوا ثلاثة أجيال تُسفك دماؤهم عن طيب خاطر، وهذا دليل قطعى على أنهم - مع تمسكهم الشديد بالنصرانية - كانوا موالين لملوكهم، فى نفس الوقت والزمن الذى كان هؤلاء الملوك يوقعون بهم كل صنوف الأذى والتعذيب.

وقد استشهد المؤلف بحقيقة أن التجنيد فى الجيش الرومانى لم يكن إجبارياً ولكن عدداً كبيراً من المسيحيين تطوعوا فى الجيش الرومانى وحاربوا تحت ألوية «النسر» ببسالة مع تمسكهم بدينهم.

ويعيد المؤلف هذا الموقف إلى أساس مبدئى هو «اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، وأن المسيح حقق فى حياته ذلك بدفعه الجباية عندما طُولب بها، ودفع الجباية إقراراً واعترافاً بسلطان من يطلب الجباية، ولما سأله الفريسيون هل يلزم دفع الجزية أم لا؟ أجابهم بالإيجاب، وأضاف إلى ذلك الآية الشهيرة التى تدل صراحة على التمييز بين السلطة الدينية والسلطة المدنية وهى «أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». ثم لما قصده أحد الناس وقال له: يا معلم، قل لأخى يقاسمنى الميراث، أجابه يسوع قائلاً: «يا رجل من أقامنى عليكم قاضياً أو مقسماً؟»، فصرح بكلامه هذا بأنه لم يأت إلى العالم ليكون ملكاً أرضياً، بل ملكاً روحياً، وأن كل خلاف يدور حول الأرضيات يجب رفعه للسلطة المدنية.

وأن ما عمله المسيح قد عمله الحواريون.

قال مار بولس: «لتخضع كل نفس للسلاطين العالية فإنه لا سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة إنما رتبها الله، فمن يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم، فلذلك يلزم الخضوع للسلطان».

إن هذا النص لا يحتاج إلى تأويل، لأن معناه واضح، وهو أنه يتحتم على المسيحى - من باب الذمة وتبعاً لأوامر الضمير - أن يخضع للسلطة المدنية الشرعية، وقد جاءت هذه الآية فى رسالة مار بولس الموجهة إلى المسيحيين الرومانيين الذين كان يحكمهم فى ذلك العهد نيرون، عدو النصارى والنصرانية، الذى طوح به الجنون إلى أن يحرق روما لينسب هذه الجريمة إلى المسيحيين، حتى يهيج عليهم الرأى العام ويفتك بهم، فكأن بولس إذن يقول: «ليس لكم يا مسيحيى روما عدو ألد من نيرون، ولكن بما أنه صاحب السلطة الشرعية فيلزمكم من باب الذمة والضمير أن تخضعوا له» وقد أمر مار بولس الأسقف «طيطى» أن يذكر الشعب بوجوب الخضوع للرئاسات والسلاطين.

ويستطرد المؤلف: «فهل يوجد شك بعد كل هذه البراهين الجلية والأدلة القطعية فى أن حقيقة التمييز بين الدين والوطن هى من أصول المسيحية؟».

وعملاً بأمر بولس الرسول لم تزل الكنيسة منذ نشأتها تطلب إلى الله فى صلواتها الرسمية أن يحفظ الملوك فى سلام ويوطد بينهم الاتحاد والائتلاف، ولو كان هؤلاء الملوك غرباء عن النصرانية أو أعداء لها، ومن الجيل الأول إلى يومنا هذا ما فتئت الكنيسة القبطية مثلاً تصلى كل يوم فى أثناء القداس الإلهى، «وهو أسمى عمل دينى تعمله»، من أجل الملوك والجنود والرؤساء والوزراء، مع أنه منذ الجيل السابع لم يحكم مصر إلا حكام غير مسيحيين، والبعض منهم أساءوا إليهم وعاملوهم معاملة لو ذكرت لما شكرت.

والثانى: هو الراهب المتجرد متى المسكين، قائلاً: إذا عجزت الكنيسة عن أن تضبط الإيمان بالإقناع والمحبة وهرعت إلى الملوك والرؤساء لتستصدر منشوراً بالإيمان تكون قد أخطأت الطريق، إن الإيمان لا يحميه السيف ولا يحميه القانون، وإنما تحميه البشارة المفرحة وكلمات الرب والاقتناع بكلماته.

هكذا نرى أن الإسلام والمسيحية يمكن أن يبسطا مواطنتهما على غير أتباعهما، بحيث يمكن أن يكون مسلماً فى دولة مسيحية ومسيحياً فى دولة مسلمة، لأن الوطنية شىء والدين شىء آخر.

gamal_albanna@yahoo.com