لم يدهشنى حكم براءة جميع المتهمين فى محاولة قتل وإرهاب المتظاهرين السلميين بميدان التحرير باستخدام الجمال والخيول يوم 2/11/2011، وأنا لا أحبذ التعبير الشائع عنها «بموقعة الجمل» حيث إنها كانت هجوماً غادراً مجرماً مُرتباً من جميع المسؤولين فى الدولة آنذاك وبعلمهم وتخطيطهم بدءاً ممن هم فى قصر الرئاسة ومروراً بقيادات الحزب الفاسد الحاكم وقتها وفروعه فى مجلسى الشعب والشورى وانتهاءً بخدمه فى مجلس الوزراء ووزارة الداخلية بالتحديد. أكرر أنه لم يدهشنى ذلك بل وتوقعته عقب الحكم ببراءة مساعدى حبيب العادلى الستة وأياديه الباطشة فى قضية مبارك- العادلى الشهيرة، لأننى أعلم يقيناً ومن شهود عيان أن أحد هؤلاء المساعدين الذين حُكم ببراءته قضى ليلة هذا اليوم المشؤوم فى منطقة نزلة السمان- وهى بالمناسبة محل إقامة أهله وعشيرته- يُرتب ويخطط ويتلقى التعليمات ويصدر الأوامر ..
ولكن الذى أدهشنى حقاً هو فتح بوابات الإعلام فى الفضائيات والصحف على مصراعيها أمام بعض هؤلاء المتهمين- وهم كذلك لأن حكم أول درجة ليس باتاً ولا نهائياً- ليقول كل منهم ما يشاء ويدعى بما يشاء، بل ويهاجم ويهدد الشرفاء!
قِلة ممن خرجوا من طرة احترموا أنفسهم وأعلنوا اعتزال العمل السياسى والعمل العام وآثروا الانزواء والتمتع فيما بقى لهم من عمر بما اكتسبوه من أيام الفساد وخدمة الكبار، عسى الله أن يغفر لهم ويرحمهم .. ولكن هناك آخرين أقل وصفٍ يمكن أن يقال عنهم أنهم كما يقول المصريون بتعبيرهم الشعبى «ناس ماعندهاش دم»! الشيخ بائع الكبدة الشهير (كما كان يعايره كمال الشاذلى) خرج علينا بتفاصيل عن أحاديث مع زملائه فى السجن من مجرمى النظام السابق تثير العجب والقرف، وكيف كان يقوم بإعطاء الدروس الدينية بالمسجد، وكيف كان من مؤيدى د. مرسى والإخوان، وينهى حديثه دائماً بنيته ترشيح نفسه لمجلس النواب القادم حتى يواصل عطاءه الوطنى فى خدمة النظام.. أى نظام!
وآخر ظل هارباً بعد أن صدر قرار بضبطه وإحضاره، وتقاعس وزير الداخلية السابق فى تنفيذ الأمر (وهو شىء مُريب ويجب محاسبة هذا الوزير، عليه خاصة أن المتهم أقر علناً بأنه كان موجوداً بمنزله ولم يغادره) يحاول أن يقنعنا الآن بأنه من أولياء الله الصالحين بقوله- كما جاء فى مواقع التواصل الاجتماعى- أنه كلما دخل عليه الجنود المنزل، اندفع إلى الصلاة وقرأ قوله تعالى «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون» فلا يرونه، وبالمناسبة فإنه بعد أن يحكى هذا المتهم تلك القصة الوهمية ويتلفظ بآيات الله، ينطلق لسانه بكل البذاءات التى يمكن أن يطلقها لسان بشر على الهواء مباشرة فى وجود أصدقائه الإعلاميين المبتسمين فى وجهه، ولابد فى نهاية أى حديث له أن يعلن بكل ما فى الدنيا من بجاحة واستفزاز أنه سوف يرشح نفسه فى الانتخابات القادمة.. أى انتخابات!
الحقيقة أن اللوم فى رأيى يجب ألا يُوجه لأمثال هؤلاء من النماذج البشرية المريضة، ولكن اللوم كله هو على تلك الأجهزة الإعلامية التى يؤدى معظمها هذه الأيام دوراً مشبوهاً ومُفسداً، وكم كان صادقاً الأستاذ عبدالناصر سلامة رئيس تحرير الأهرام فى مقاله الأخير بأهرام الجمعة الماضى حيث كتب: إن تمويل الإعلام فى الداخل يجب أن يكون تحت مراقبة فاعلة لأن ذلك التمويل فى السابق قد أسفر عن إيجاد «شياطين إعلام» وها هم الآن يواصلون مسيرة التخريب والتأليب دون الأخذ فى الاعتبار الحالة التى وصلت إليها البلاد أو التى يمكن أن تصل إليها.
كل الوطنيين والشرفاء يدركون جيداً دور أشخاص بعينهم فى وسائل الإعلام المختلفة لهدم المعبد فوق رؤوس الجميع طالما أن كهنة هذا المعبد من فصيل الإخوان وحلفائهم السلفيين الذين يكرهونهم .. لا تفرق معهم كثيراً بوادر الإفلاس التى تهدد مصر، أو نُذر حرب أهلية محتملة، أو حالة البؤس والفقر التى يعانى منها أكثر من نصف الشعب المصرى، طالما أنهم لديهم الملايين فى الخارج ولديهم ولدى أولادهم جوازات سفر بجنسيات أخرى ..
ماذا يُضير هذه الفئة من «شياطين الإعلام» إذا ما قرروا إهمال النماذج البشرية الوضيعة التى لا تفكر إلا فى مصالحها الشخصية، وعدم الإشارة إليها أو ظهورها على الناس بأى شكل من الأشكال؟ أى إثارة وأى مكاسب تافهة تبحثون عنها، ووطنكم فى أمسّ الحاجة إلى كل دقيقة رسالة إعلامية نظيفة تلمس مشاكل حقيقية ومهمة تؤثر على المجتمع، تُشركون الناس فى المناقشة حولها وترفعو من درجة وعيهم؟ هناك العديد من القضايا القومة المهمة التى يمكن أن أسرد العديد منها لولا ضيق المساحة- يمكن أن تملأ ساعات الإرسال الطويلة بطرحها للمناقشة المجتمعية الجادة وتوعية وتبصير الشعب الأمى- فى غالبيته أبجدياً وثقافياً- بحقائق الأمور حولها، بدلا من الهراء والثرثرات الفارغة التى مل الناس منها..
المؤسف أننى أتلفت حولى فلا أرى سوى عدد لا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة مؤهلين بحق لمثل هذه المهمة النبيلة، على رأسهم الإعلاميان الوطنيان المحترمان حافظ الميرازى ويسرى فودة .. أما «شياطين الإعلام» الآخرون الذين يعرفهم الشعب المصرى الذكى فرداً فرداً، فسيأتى يوم يُحاسبون فيه حساباً عسيراً بعد أن سقطت الأقنعة عن الوجوه الكالحة، ولعله يكون قريباً.