«الانتخابات الرئاسية».. قراءة فى اتجاهات ودلالات التصويت (تحليل)

مع بزوغ فجر الثامن عشر من يونيو 2012، أوشكت ملامح صورة رئيس مصر ما بعد ثورة 25 يناير أن تكتمل، حيث أسفرت النتائج غير الرسمية، عن تقدم مرشح حزب الحرية والعدالة الدكتور محمد مرسى على منافسه الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء إبان حقبة الرئيس السابق حسنى مبارك، بما لا يقل عن نصف مليون صوت، باختلاف الأرقام وفقاً للمصادر الإعلامية المختلفة بالإضافة إلى الحملة الانتخابية لكلا المرشحين، لاسيما مع عدم الإعلان الرسمى والنهائى لنتيجة جولة الإعادة حتى الآن، بانتظار اضطلاع اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية بهذه المهمة خلال اليوم أو غد وفقاً لمصادر قضائية مسؤولة داخل اللجنة.

ويسعى هذا التحليل إلى رصد اتجاهات الناخبين فى جولة الإعادة، والتحولات فى اتجاهات التصويت فى تلك الجولة عنها فى الجولة الأولى، وكذا قراءة اتجاهات الناخبين فى المحافظات المصرية المختلفة، مقسمة إلى فئات جغرافية وديموجرافية أربع، هى، إقليم القاهرة الكبرى، والوجه البحرى، والوجه القبلى، والمحافظات الحدودية.

ويستند التحليل فى قراءته لنتائج الانتخابات الرئاسية فى جولة الإعادة إلى البيانات والإحصاءات الصادرة عن غرفة عمليات «المصرى اليوم» المعنية برصد عملية فرز الأصوات وإعلان نتائج اللجان العامة والفرعية ونتائج المحافظات.

:

شهدت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية إقبالاً متوسطاً من الناحية الرقمية، لكنه ذو دلالة جيدة من الناحية التحليلية، فعلى الصعيد الرقمى، صوت فى جولة الإعادة ما يربو بقليل عن 25 مليون مواطن من إجمالى ما يزيد على 50 مليون ممن لهم حق التصويت، بنسبة تعدت حاجز الـ50% من الناخبين المصريين، وهى نسبة متوسطة، ولكنها تفوقت على نسبة التصويت فى الجولة الأولى والتى لم تتعد 46% فقط من إجمالى الناخبين، ما يدل على أن ثمة أصوات جديدة نزلت السوق التصويتة فى جولة الإعادة ولم تنزل فى الجولة الأولى، وهو أمر يبدو منطقياً فى إطار حالة الاستقطاب الشديد التى علت وجه المشهد السياسى والمجتمعى المصرى خلال الفترة الزمنية ما بين الجولتين الانتخابيتين.

من المفارقة- إذن- أن تزيد نسبة الإقبال فى جولة الإعادة عنها فى الجولة الأولى، فدائماً ما تقل نسبة التصويت فى جولات الإعادة فى التجارب الدولية المختلفة، وفى الحالة المصرية أيضاً، وفق ما كان عليه الحال فى انتخابات مجلس الشعب الأخيرة.

ولعل تلك الزيادة تعكس حالة من الاستقطاب «الصفرى» لمباراة الرئاسة المصرية، «Zero-Sum Game»، والتى تعنى أن أى مكسب لأحد المرشحين يقابله خسارة للمرشح الآخر، ما يجعل المحصلة النهائية للمباراة صفراً. أما فى الجولة الأولى فيمكن النظر إلى مباراة الرئاسة باعتبارها مباراة غير صفريةNon Zero-Sum Game بين المرشحين المتنافسين الذين يعكسون صراعاً نخبوياً بين ثلاثة أطراف رئيسة هى؛ القوى الإسلامية، والقوى المدنية، والقوى المحسوبة على النظام السابق، حيث إن نجاح أحد مرشحى المعسكرات الثلاثة وبلوغه جولة الإعادة يعد فوزاً ضمنياً لمنافسيه من نفس المعسكر.

:

ولاعتبارات التحليل، يمكن دراسة التغير فى السلوك التصويتى للناخبين المصريين فى جولة الإعادة عنه فى الجولة الأولى، من خلال تقسيم مصر إلى خمس كتل جغرافية، هى، إقليم القاهرة الكبرى، الوجه البحرى، وإقليم الصعيد، والمحافظات الحدودية، وإقليم قناة السويس.

:

جاء السلوك التصويتى فى جولة الإعادة للناخبين بإقليم القاهرة الكبرى، والذى يضم محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية «بكتلة تصويتية تبلغ نحو 13.370.833 مليون صوت بنسبة 26.22% من إجمالى الكتلة الناخبة بمصر»، متسقاً مع ما كان عليه فى الجولة الأولى، فيما يتعلق بالمرشحين أحمد شفيق ومحمد مرسى، ففى الجولة الأولى تفوق شفيق على مرسى بحصوله على نحو 24.15% من إجمالى الأصوات الصحيحة بالإقليم فى حين حصل مرسى على نحو 21.38%، واستمر هذا التفوق فى الجولة الثانية حيث حصل شفيق على 51.32% فى حين حصل مرسى على 48.68% من إجمالى الأصوات الصحيحة.

وعلى الرغم من أن الفارق بين كلا المرشحين لم يتخط حاجز الثلاثة بالمائة فى الجولتين، فإن استمرار تفوق أحمد شفيق على منافسه محمد مرسى بإقليم القاهرة الكبرى، يعكس حالة من التراجع فى شعبية الإخوان المسلمين الذين حصدوا ما يزيد على 46 مقعداً من مقاعد مجلس الشعب فى المحافظات الثلاث بنسبة 45% من إجمالى المقاعد المخصصة لها.

:

وفى محافظات الوجه البحرى الذى يحوز على 21.495.246 مليون ناخب يمثلون نحو 42.15% من إجمالى الكتلة التصويتية لمصر، حاز أحمد شفيق على نحو 25.25% من إجمالى الأصوات الصحيحة بالإقليم فى الجولة الأولى تضاعفت إلى 53.94% فى جولة الإعادة، فى حين حصل محمد مرسى على 22.37% فى الجولة الأولى زادت إلى 46.06% فى جولة الإعادة.

يعنى ذلك أن الصراع الخفى بين متنفذى الحزب الوطنى السابق والإخوان المسلمين وحلفائهم من الإسلاميين قد حسم لصالح الفريق الأول، حيث استطاعت النخب القديمة المهيمنة على توجهات الناخبين فى محافظات الوجه البحرى بشكل عام والمنوفية والشرقية والدقهلية بوجه خاص أن تسحب البساط من تحت أقدام كتلة الإخوان التصويتية فى ذلك الإقليم.

:

وعلى عكس اتجاه التصويت فى الوجه البحرى، جاء الصعيد الذى يحوز على 26.29% من إجمالى الكتلة التصويتية لمصر، ليعيد التوازن لصالح محمد مرسى، بل إنه ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن مرسى قد فاز بأصوات الصعيد «الفيوم 76%، بنى سويف 66.5%، المنيا 64%» حيث حصل مرسى فى الجولة الثانية على نحو 62.38% مقابل 37.62% لأحمد شفيق، ولقد جاء ذلك السلوك متسقاً مع نتيجة الجولة الأولى التى تفوق فيها مرسى بحصوله على نحو 35.21% من إجمالى الأصوات الصحيحة بالإقليم، فى حين حصل شفيق على نحو 22.75%.

ما يثير الدهشة فى هذا الإطار هو إخفاق العصبيات القبلية والتكتلات العائلية وشبكة متنفذى الحزب الوطنى المنحل فى الصعيد فى التأثير على توجهات الناخبين بالإقليم بشكل لافت، فمن المعروف أن الروابط العائلية والقبلية فى الوجه القبلى تتفوق نفوذاً وتأثيراً عن مثيلتها فى الوجه البحرى، ومع هذا جاء اتجاه التصويت فى الصعيد لصالح مرشح الحرية والعدالة فى حين أن الدلائل كانت تعطى أحمد شفيق الأسبقية فى هذا الإقليم وهو ما لم يحدث على أرض الواقع.

:

جاء التصويت فى إقليم القناة الذى يحوى 2.98% فقط من إجمالى الكتلة التصويتية بمصر، ليمنح مزيداً من التقدم للمرشح محمد مرسى فى سباقه المحموم مع منافسه أحمد شفيق، وربما يعكس هذا التقدم حالة من الرفض لدى الناخبين لكل ما يمت للنظام السابق بصلة، حيث جاءت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لتعطى محمد مرسى 22.19% من إجمالى الأصوات الصحيحة بالإقليم مقابل 14.09% فقط لأحمد شفيق، فى حين حصل مرسى على 53.94% فى جولة الإعادة مقابل 46.06% لمنافسه أحمد شفيق.

:

وعلى غير المتوقع، جاء السلوك التصويتى لمحافظات الحدود التى تحوى نحو 1.21% من الكتلة التصويتية على مستوى الجمهورية، فى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية إخوانياً بامتياز، حيث حسم محمد مرسى الجولة لصالحه بنسبة 66.05% من إجمالى الأصوات الصحيحة بالإقليم مقابل 33.95% لصالح أحمد شفيق، الأمر الذى يلقى بظلال من الشك عن التأثير القبلى فى تلك المحافظات التى كانت أصواتها محسومة من قبل لصالح مرشحى الحزب الوطنى المنحل قبل الثورة.

وربما يؤكد هذه الفرضية نتيجة الجولة الأولى التى تفوق فيها أيضاً مرسى بحصوله على نحو 28.52% مقابل 10.55% لصالح أحمد شفيق.

إلى أين ذهبت أصوات المنافسين الثلاثة الكبار؟

وربما يدفعنا تحليل التغيرات فى السلوك التصويتى للناخبين فى جولة الإعادة إلى التساؤل بشأن ملايين الأصوات التى ذهبت للمنافسين الثلاثة الكبار فى الجولة الأولى، حمدين صباحى، وعبدالمنعم أبوالفتوح، وعمرو موسى، والذين نالوا مجتمعين نحو 11.474.362 بما يعادل 49% من إجمالى الأصوات الصحيحة فى المرحلة الأولى، ترى! لمن ذهبت تلك الأصوات، إلى مرسى أم إلى شفيق؟

القراءة التحليلية لإجمالى اتجاهات التصويت تؤكد أن محمد مرسى حصل على زيادة فى معدلات التصويت لصالحه تقدر بنحو 26.5% عما حصل عليه فى الجولة الأولى، فى حين حصل أحمد شفيق على زيادة تقدر بنحو 25% عما حصل عليه فى الجولة الأولى، أى أن مجموع الزيادة التى حصلا عليها معاً تقدر بنحو 51.5%، ولما كانت نسبة الثلاثة الكبار وفقاً، لما سلف بيانه، تقدر بنحو 49%، فإنه يمكن القول إن أصوات تلك الكتلة توزعت على كل من مرسى وشفيق بنسبة لا يمكن تحديدها بالفعل، هذا مع الأخذ فى الاعتبار أن ثمة روافد جديدة فى الكتلة التصويتية فى الإعادة قد أضيفت إلى ما كانت عليه فى الجولة الأولى، لكنها ليست بالنسبة التى تفسر الزيادة فى معدلات التصويت التى حصل عليها كلا المرشحين.

«مبطلون» و«مقاطعون».. حملات ذهبت هباءً

وتأتى قضية المقاطعة وإبطال الأصوات على هامش تحليل نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إذ إنه على الرغم من الهالة الإعلامية والنشاط اللافت فى الفضاء الإلكترونى عبر مواقع التواصل الاجتماعى للدعوات الرامية إلى عدم المشاركة فى التصويت بجولة الإعادة مثل حملة «مبطلون» وحملة «مقاطعون»، حيث يرى مدشنو تلك الحملات أن أياً من المرشحين لا يمثل الثورة، حيث يمثل أحدهما جماعة الإخوان المسلمين فى حين يمثل الثانى نظام مبارك المخلوع، ومن ثم سعت تلك الحملات إلى حث الناخبين على إفساد جولة الإعادة عبر آليتى المقاطعة وإبطال الأصوات.

وفى هذا الإطار، يمكن القول إن البيانات الخاصة بأعداد ونسب الأصوات الصحيحة والباطلة، وفقاً لمصادر إعلامية متواترة، جاءت فى معدلاتها الطبيعية ولم يلاحظ عليها أى طفرة لاسيما ما يتعلق منها بالأصوات الباطلة، بل إن هامش الأصوات الباطلة فى جولة الإعادة لم يتعد 3% فى المتوسط العام على مستوى الجمهورية، فى حين أنه كان يدور فى حدود 2% فى المتوسط خلال الجولة الأولى، ومن ثم يمكن القول إن حملتى «مقاطعون» و«مبطلون» فشلتا فى هدفهما بإفساد الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

بل إن ما حدث على الأرض هو زيادة أعداد المصوتين فى الجولة الثانية عنه فى الجولة الأولى، وعلى خلاف المعتاد فى مثل هذه الفعاليات الانتخابية، وربما تجدر الإشارة فى هذا المقام إلى تأثير حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، على خلفية عدم دستورية قانون الانتخاب الذى أجريت الانتخابات على أساسه، حيث أدى هذا الحكم إلى تغيير توجه كتلة لا بأس بها من الناخبين لاسيما من كانوا يميلون إلى خيار المقاطعة والإبطال، ما دفعهم إلى التصويت للمرشح محمد مرسى، ربما لشعورهم بخطر حقيقى على مسار الثورة، أو لشعورهم أن مخاوفهم من استحواذ الإخوان المسلمين على مقاليد السلطة أصبح غير مبرر.