فى إطار مهرجان الربيع الذى نظمه مؤسسة المورد الثقافى بالقاهرة مؤخراً قدمت فرقة «دوركى بارك ومسرح هيبيل» فى برلين عرض «بعد الآن» على مسرح الفلكى تصميم الرقصات والإخراج للأرجنتينية «كونستانزا ماكراس».
بعد الآن عرض موسيقى غنائى تعبيرى حركى ينعى العصرية والحداثة القاتلة التى جعلتنا سجناء داخل أنفسنا فصارت المنازل زنزاين وصرنا كائنات افتراضية داخل عوالم مزيفة يحكمها الإنترنت وغرف المحادثة.. الإنسان محاصر داخل جدران المنزل يتناول وجبات «الديلفرى» السريعة ويمارس الجنس بنفس الطريقة فلا وقت لديه! فلا يهم ماذا سيأكل ولا مع من سيمارس الجنس!
عبر شاشة «السكايب» تخبرنا سيدة يابانية أن حكومتها منعت أخذ عينات تحليل البول لتخفى نسبة التلوث الإشعاعى فى فوكوشيما! الحكومة تؤكد أنها تبذل قصارى جهدها! ولكنها تخفى إمكانية إنجاب أطفال برأسين يشبهون الوحوش ولكنها وحوش مسالمة!! نفس الكارثة فى روسيا فالأطفال يولدون مصابين بالسرطان بسبب كارثة تشرنوبيل! لا أمل فى عالمنا.. عولمة متوحشة أهدت الإنسان التطور التكنولوجى وسلبته الصحة والطمأنينة وجردته من إنسانيته.
تحكى سيدة فيما يشبه العبث أنها سعيدة لأنها ستدعى لحفل، حيث الموسيقى والرقص والكافيار وهناك ستسكر حتى الإعياء وسوف تتقيأ أمام الجميع وستتظاهر بأنها لا ترى زملاء العمل!
يالها من حياة رائعة تلك التى نحياها!
بدأ العرض بسيدة تهتز مع الإضاءة والموسيقى فى ارتعاشات مرضية يتخيل المشاهد أن السيدة عمرها 70 عاما.. مع زيادة الإضاءة نكتشف أننا أمام شابة حسناء لم تتعد 30 عاماً، ولكن شوهتها الحياة المعاصرة وأصابتها بأمراض نفسية متعددة! تفشل فى اغتصاب عامل يأتى لمنزلها فتخبره عن قائمة بأسماء أدوية المهدئات التى تتعاطها!
لقد تحول الجنس إلى عمل يشبه طلب بيتزا بالتليفون.!.. لا وقت للحب! الكل مسحوق فى آلة العولمة والرأسمالية المتوحشة التى تشبه وحشاً أسطورياً مفترس له ألف رأس كرؤوس أطفال فوكوشيما المسالمين البؤساء!
يبدو الحب فى أغانى العرض كحلم خيالى وخرافى!.. ويزداد الخواء الروحى مع لعبة الأفلام.. السيدتان تقيمان فى المنزل وتتسليان بتقليد بعض النجمات فى أشهر أفلامهن ويحاول كل منهن معرفة اسم البطلة واسم الفيلم! لقد حولتنا العولمة إلى كائنات استهلاكية منهكة وفارغة! فنجد الأبطال داخل فاترينة أو تأتينا إطلالتهم من شاشات السكايب والشات وهو تعبير دقيق عن تسليع الإنسان فى سوبر ماركت كبير تحكمه قوى لا ترحم.. الكل سلعة وتعظيم الربح هو القيمة الأعلى!
فى هذا العرض الموسيقى الغنائى الراقص لا مكان للمشاعر أبدا لا مكان للحب لا وجود للإنسان نفسه!.. الحياة تدور مع دوران القرص الكبير على خشبة لمسرح ومع ذلك نرقص بلا توقف ونؤدى كل شىء بآلية واضحة.. الجنس مجموعة حركات رياضية ممنهجة بلا أى مشاعر.. التواصل المبتور يتم فقط عبر الزجاج والشاشات والفاترينات! لا يوجد لقاء إنسانى حقيقى.. حتى هذا المقال أكتبه لكم مستخدماً تقنيات عزل الإنسان وحصاره!.. لن أذهب للجريدة سأرسله من داخل غرفة منزلى وأنا أتناول قطعة بيتزا بلا طعم!