عبد المنعم أبو الفتوح.. إصلاح الجماعة والتطبيع مع المجتمع

كتب: تامر وجيه الثلاثاء 08-05-2012 16:06

"لم ندخل الجماعة إلا من أجل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح"، كان هذا ما صرح به القيادي الإخواني السابق، ورئيس حزب الوسط حاليا، أبو العلا ماضي إلى الباحث في شؤون الإسلام السياسي حسام تمام في حوار أجراه الأخير معه في جريدة الشرق الأوسط اللندنيةأوائل عام 2003.

كلام ماضي ينصب على قرار معظم قيادات تنظيم "الجماعة الإسلامية" الطلابي بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين في منتصف سبعينيات القرن الماضي بعد إلحاح ودعوة من عبد المنعم أبو الفتوح، العنصر الأبرز آنذاك في تلك الجماعة الطلابية الإسلامية. وقد أدى هذا القرار، الذي يستحق وصف التاريخي، إلى إعادة تأسيس جماعة الإخوان لتصبح هي القوة الإسلامية الأكبر في مصر والبلدان العربية عامة.

أبو الفتوح إذن رقم أساسي في معادلة الإخوان المسلمين. بل يمكن القول، بلا مبالغة، أنه "المؤسس الثاني" للجماعة بعد مؤسسها الأول وزعيمها الروحي حسن البنا.

النشأة

ولد أبو الفتوح في 15 أكتوبر 1951 في حي المنيل بمصر القديمة لأسرة متوسطة الحال (أبوه كان فني أسنان) جاءت إلى القاهرة من قرية قصر بغداد بكفر الزيات بمحافظة الغربية، ولكن أصولها تنتمى إلى محافظة المنوفية، وكان ترتيبه الثالث بين ستة إخوة كلهم ذكور.

وتعبر سيرة حياة أبو الفتوح، كما رواها هو نفسه في مذكراته "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"، عن قصة جيل كامل من شباب الطبقات الوسطى الدنيا تفتح وعيه السياسي بينما يُهزم الجيش المصري في حرب كبرى مع "العدو الصهيوني". فبعد أن كان جمال عبد الناصر "بالنسبة لنا المثل الأعلى والزعيم المخلص"، انقلب الحال بين ليلة وضحاها و"بدأنا نفكر في أن كل من كان ضد جمال عبد الناصر كان على صواب".

ومن ناحية أخرى، وكما يقول أبو الفتوح، فإن الهزيمة "ولّدت حالة من الرجوع إلى الله، وجعلت الناس تتجه إلى ارتياد المساجد واللجوء إلى التمسك بالدين والعودة العميقة إلى الله".

الجماعة الإسلامية

لا يظهر من مذكرات أبو الفتوح إن كان قد أصبح "إسلاميا" قبل دخوله الجامعة أم لا. أغلب الظن أنه دخل الجامعة (1970) كشاب متفوق متدين بسيط لا انتماء سياسي واضح له. لكن الأكيد أنه أصبح إسلاميا فور دخوله كلية الطب بجامعة القاهرة بعد أن أصيب بـ"صدمة" جراء احتكاكه، لأول مرة، بأفكار التيارات القومية والناصرية واليسارية التي كانت مسيطرة على الطلاب آنذاك.

يقول أبو الفتوح إنه كان يشعر بالحزن ويبكي حين يقرأ مجلات الحائط الجامعية التي "تنتقد الإسلام وتخوض فيه بجرأة". وهو الأمر الذي حفز مشاعره الدينية ودعاه، هو وغيره من "الشباب البسيط المتدين"، إلى "أن نقرأ في القضايا التي كانوا يثيرونها مثل ادعائهم أن الإسلام غير صالح للحكم".

حين دخل أبو الفتوح الجامعة، وحتى بعد أن أصبح إسلاميا، لم يكن لديه احتكاك مباشر بالإخوان المسلمين. على أن الصورة التي رسمها النظام الناصري لهم كرمز لكل شيء سيء، والتي قبلها الصبي اليافع عبد المنعم بلا نقد، كانت قد بدأت في التغير جراء لقاءه "ببعض ممن يعرفون الإخوان أو سبق لهم التأثر بهم" في مسجد جمعية أنصار السنة بعابدين الذي كان يصلي فيه قبيل دخوله إلى الجامعة.

وهكذا، فإن إسلامية أبو  الفتوح وغيره من مؤسسي "الجماعة الإسلامية" كانت، بمعنى ما، إسلامية بكر غير ملتزمة بإطار تنظيمي محدد له ميراثه الفكري وقواعده الحركية. بدأت تلك "الإسلامية" في العام الدراسي الأول بـ"الصلاة في مسجد الكلية"، ثم تطورت فيما بعد إلى "تنظيم حلقات قراءة القرآن الكريم وحفظه"، إلى أن "بدأ ينمو لدينا الاتجاه إلى تنظيم العمل بيننا".

يقول أبو الفتوح: "التقينا في إجازة الصيف الأول لنا بالجامعة لننسق لعملنا في العام المقبل، وحين بدأنا العام الجديد كنا أفضل حالا من سابقه، ولكن ظل النشاط بسيطا لبساطة خبرتنا وإمكاناتنا." هذا النشاط "البسيط"، الذي بدأ من الصفر في مطلع السبعينيات، كان نقطة الانطلاق لواحد من أهم التنظيمات الطلابية في تاريخ مصر الحديثة؛ تنظيم "الجماعة الإسلامية" الذي ضم في غضون سنوات قليلة عشرات الآلاف من الطلاب في ربوع مصر من الإسكندرية إلى أسيوط.

لكن الطفرة الحقيقية في النشاط الطلابي الإسلامي في السبعينيات جاءت مع نجاح الإسلاميين، وعلى رأسهم أبو الفتوح، في انتخابات اتحاد طلاب كلية طب القصر العيني في 1973. فمنذ هذا التاريخ، وباستخدام تمويل الاتحاد وشرعيته، بدأ إسلاميو "الجماعة الإسلامية" في بسط هيمنتهم بسرعة الصاروخ على عدد واسع من الاتحادات الطلابية وعلى مجمل العمل الطلابي في الجامعات.

الرؤية الفكرية

وللتعرف على "الرؤية الفكرية" لأبي الفتوح وغيره من طلاب الجماعة الإسلامية في تلك المرحلة المبكرة، نستمع إليه وهو يقول "في ذلك الوقت كانت فكرة استخدام العنف في التغيير مقبولة عندنا أو على الأقل لا تجد منا رفضا صريحا لها... كان أقصى خلافنا مع من تبنوا العنف منهجا للتغيير أنهم يتعجلون بطرح أفكارهم في غير أوانها... لقد كانت أفكارنا - في هذا الوقت- مزيجا غريبا من السلفية والجهادية وبعض من الإخوان المسلمين".

قرأ أبو الفتوح وإخوانه الإسلاميين كتابات إسلامية من مشارب شتى. قرأو للشيوخ حسن البنا ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد أبو زهرة والسيد سابق والبهي الخولي وسيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وقرأوا كذلك كتابات صوفية وسلفية شتى، بما فيها السلفية الوهابية، بل قرأوا كتابات الجماعات الجهادية التي كانت قد بدأت في الظهور آنذاك (جماعة المسلمين المشهورة بالتكفير والهجرة وتنظيم الفنية العسكرية). ومن ثم فإن أفكارهم كانت مزيج غير محدد المعالم من تيارات ومدارس مختلفة. لكن المؤكد أنها، بتأثير الشباب والبدايات، كانت تميل إلى التشدد سواء في الشكل (التركيز على الزي الإسلامي وغيره من المظاهر) أو في الموقف من القوى الأخرى المختلفة (محاولات منع الحفلات في الجامعات والاشتباك بالأيدي مع الطلاب الناصريين والشيوعيين).

لكن كما ظهر فيما بعد، فإن "الجماعة الإسلامية" كانت مجرد غطاء تنظيمي فضفاض لثلاثة تيارات فكرية-سياسية - سلفي وجهادي وإخواني - انقسمت مع تطور الأحداث ليسير كل في طريقه. فمن عباءة تلك الجماعة الطلابية خرجت قيادات السلفية العلمية في الإسكندرية وقيادات تنظيم الجهاد في أسيوط وقيادات جيل الوسط في جماعة الإخوان المسلمين مثل عبد المنعم أبو الفتوح نفسه.

الإخوان المسلمون

كثيرا ما يرتكب الكتاب والمؤرخون خطأ القول إن أبو الفتوح وإخوانه الطلاب "دخلوا" جماعة الإخوان المسلمين. لكن الحقيقة أن الأمر لم يكن "دخولا" من جانب "الجماعة الإسلامية" إلى تنظيم الإخوان ذاب فيه الأولون في الأخيرين وأصبحوا جزءا من نسيجه. الأدق القول أن ما حدث هو التقاء بين كيانين مستقلين انصهرا في بوتقة جديدة لا هي بالضبط "الجماعة الإسلامية" الطلابية ولا "جماعة الإخوان المسلمين" التاريخية.

حين دخل أبو الفتوح وزملاؤه الطلاب الإخوان (1975-1976) كانت تلك الأخيرة لا تعدو أن تكون رمزا تاريخيا بلا جسد تنظيمي. بعد عشرين عاما في السجون والمنافي، لم يتبق من الإخوان إلا حفنة من القيادات التاريخية المعزولة حالها كحال جماعة من الجنرالات خسرت جنودها في المعركة. أما الطلاب السابقين الخارجين لتوهم من قاعات الدرس، فكانوا كجماعة من الجنود تفتقر إلى الرمز والقيادة والتاريخ.

وفي حين كانت قيادات الإخوان التاريخية تنقسم إلى مجموعتين - الأولى تربت في "التنظيم الخاص" الذي يقوم على إعلاء شأن التنظيم والبعد عن العمل السياسي العام، والثانية ارتبطت بالعمل الدعوي ومن ثم كانت أقرب إلى روح البنا كسياسي ومحرض جماهيري - فإن قيادات الجماعة الإسلامية كانت تفتقر إلى الخبرة التنظيمية الجادة والرؤية الفكرية الواضحة، رغم ميلهم إلى التشدد في كثير من الأمور.

وكما كان أبو الفتوح سبّاقا في دخول الإخوان (قدم أبو الفتوح البيعة لقيادات الإخوان في 1975، ولحقت به باقي القيادات في 1976)، فإن كان سبّاقا كذلك في التخلي عن التشدد وتبني الرؤية الإخوانية الدعوية بمنظورها التدرجي الإصلاحي القابل للتعامل بعملية وانفتاح مع تغير الظروف.

يعترف أبو الفتوح أن عمر التلمساني، المرشد الثالث للإخوان القريب من روح فكر البنا، كان له الفضل الأول في كسبه هو وحفنة أخرى من القيادات الطلابية إلى هذا المنظور الجديد. يقول أبو الفتوح: "وكان للأستاذ عمر التلمساني رحمه الله الدور الرئيسي في حسم مسألة العنف وتأكيد التوجه السلمي، ليس فقط لدينا نحن أبناء الجماعة الإسلامية التي قررت الانضواء تحت لواء الإخوان، بل ولدى كثير من الإخوان المسلمين ايضا من أجيال سابقة، خاصة أبناء تنظيم 1965 الذي عرف بتنظيم سيد قطب."

وهكذا عمل أبو الفتوح مع التلمساني على إعادة تأسيس الجماعة بروح جديدة. فكان أن انخرط الإخوان بكل همة ونشاط بدءا من 1984 في النشاط العام الشرعي، سواء في النقابات المهنية أو الاتحادات الطلابية أو، وهذا هو الأخطر، في الانتخابات البرلمانية والعمل السياسي.

دخل الإخوان انتخابات 1984 البرلمانية في تحالف مع حزب الوفد بزعامة فؤاد سراج الدين، ودخلوا انتخابات 1987 في قائمة موحدة مع حزبي العمل والأحرار، وشاركوا في كل انتخابات النقابات المهنية والاتحادات الطلابية وأندية هيئات التدريس في الجامعات، وحققوا مواقع متقدمة في كل منها كلما سمحت الظروف والأحوال.

وفي أواخر الثمانينيات حسم الإخوان موقفهم من العنف نهائيا وأعلنوا أنهم "طلقوه بالثلاثة". وبذلك كانوا قد نجحوا تماما في استئصال فكر سيد قطب وروح تنظيم 1965 الإقصائية العنيفة من جسد الجماعة، على الأقل فيما يتعلق بأفكار مثل الحاكمية وتكفير المجتمع وتجهيله.

انطلاق

لكن أبو الفتوح لم يتوقف عند هذا الحد. فالرجل الذي تشرّب مشروع البنا الإصلاحي سريعا بعد انضمامه إلى الإخوان، والذي شارك بريادية في تأسيس الوجود الشرعي الواقعي للإخوان في الثمانينيات والتسعينيات، انطلق بفكره ومشروعه الإسلامي متجاوزا البنا ورؤاه التي توقفت عند حدوث إجراء مصالحة "تكتيكية-عملية" مع الدولة الحديثة ونظامها السياسي.

كان البنا يدعو إلى التدرج في العمل الإسلامي، وكان يصر على أهمية التوجه الإصلاحي، وكان كذلك يترك الباب مواربا للتعامل المنفتح مع كل القوى والأطراف، بدءا من الملك، مرورا بالأحزاب، وانتهاء بالجماعات المذهبية والسياسية المختلفة. لكنه في المقابل كان يعتبر هذه التدرجية وهذا الانفتاح مجرد أدوات على طريق الهدف الاستراتيجي المتمثل في الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم.

يمكن القول إن مشروع البنا كان إصلاحيا متدرجا من ناحية الوسائل والأدوات وأصوليا من ناحية الأهداف والمقاصد. فلا ضرر في التأني ولا عيب في الانفتاح طالما ظل الهدف هو تمدد جماعة الإخوان المسلمين، بوصفها جماعة المسلمين حاملي مشروع الخلافة، في جسد المجتمع إلى حين توفر ظروف إنشاء الدولة المسلمة، أي إلى حين توفر شروط حالة "التمكين" التي ستسمح بتحول الإخوان من مجرد جماعة من الجماعات في المجتمع إلى جماعة تضم المجتمع كله.

ما يجعل فكر أبو الفتوح مختلفا هو أنه قطع مع هذه المنظومة الفكرية البنّاوية كلية وبلور رؤية جديدة تقترب كثيرا من مشروع حزب العدالة والتنمية التركي، برؤيته الحديثة للمجتمع وقبوله الكامل لشروط اللعبة السياسية وتبنيه لليبرالية إسلامية متوافقه مع قيم المجتمع البرجوازي. يقول حسام تمام في كتابه "تحولات الإخوان المسلمون": "ينزع أبو الفتوح عن العملية السياسية بمجملها أي غطاء ديني كانت تيارات الإسلام السياسي - بما فيها الإخوان - تحرص على أن تسربلها بها، وعليه فإن الخلافة مسألة سياسية مثلا لا علاقة لها بنصوص دينية، وهي في الحال المعاصرة ليست تبعد كثيرا عن أشكال الوحدة السياسية المعاصرة بما فيها الاتحاد الأوروبي."

اختلاف أبو الفتوح مع إرث البنا لا ينحصر فقط في قبوله للأحزاب التي طالما رفضها الأخير عن قصد، ولا في اعترافه الكامل بالتعددية السياسية والحريات الشخصية وغيرها من مبادئ المساواة في المجتمع الحديث. الأهم من هذا وذاك هو تدشين أبو الفتوح لرؤية سياسية جديدة ترى المشروع الإسلامي - وهنا من الأدق أن نقول الحزب السياسي الذي يقوم على مرجعية إسلامية - مجرد منافس من بين منافسين متساوين في الطبيعة والحقوق.

باختصار، قام أبو الفتوح بتطبيع العلاقات بين "الرؤية الإسلامية" والحياة السياسية البرجوازية الحديثة تطبيعا كاملا. وربما لهذا السبب بالضبط كان أبو الفتوح، ومن ساروا على دربه من شباب الإخوان، عصيا على الهضم داخل الجسد الإخواني. فبرغم قبول العمل السياسي الشرعي، ورغم تطليق العنف بالثلاثة، إلا أن أحلام الخلافة وأستاذية العالم لازالت تتلبس التنظيم الإخواني، حتى لو كان تحققها غير متوقع إلا في زمن قادم بعيد.