فتح الله كولن.. أسطورة الدين والمال والسياسة فى تركيا (2)

الأربعاء 30-12-2009 00:00

يبدو أن من لم تتح له الفرصة لمشاهدة الواقع التركى والوقوف على تحولاته لن يشعر بحقيقة التحولات التى جرت وتجرى على كل الأصعدة، ويبدو أنه إزاء فشل العرب فى مهمتهم التى فضلهم الله بها فإن الأتراك فى طريقهم للعودة مجددا إلى قيادة العالم الإسلامى. إن تركيا تجمع اليوم بين الحداثة والتطور والتقنية الحديثة وبين الأصالة واعتزازها بدينها.

وفى تجربة كولن أيضا تحققت نجاحات كبيرة فى المجتمع، أى محبة تلك التى استطاع زرعها فى قلوب أتباعه ومريديه، فكرة «الخدمة الإيمانية» التى يقدمها «الأصناف»، وهو المصطلح الذى يطلقونه على التجار ورجال الأعمال.

أعتقد أن عبقرية كولن تكمن فى إدراكه قدرة الإسلام على تحقيق تحولات جذرية فى أى زمان ومكان، طالما وُجد البشر الذين يرتفعون لقامة هذا الدين، فهو مؤمن جدا بقدرات الإسلام ومنهجه، وتُلح عبقريته فى قدرته على توظيف الإمكانات لخدمة هذا الدين ببساطة وسهولة وبغير عُقد أو شعارات، واستطاعته جمع قلوب عشرات من الرجال والنساء والشباب المؤمنين بفكرته على تطبيق «الخدمة الإيمانية» كما يحلو له أن يسميها بطريقة عامة مجردة لا تخصيص فيها للهدف المطلوب خدمته أو عنصرية.

لقد استطاع كولن أن يربى صفوة من أتباعه ومحبيه على منهج ربانى فى بناية خصصها لهذه المهمة المقدسة، انقطع معهم داخلها فترة من الوقت احتفظ بغرفة بسيطة تخلو من الأسـرّة حيث كان يحلو له أن ينام على فرش خشن مسطح على الأرض!!

تفرغ كولن لهؤلاء «الصفوة»، علمهم وتعلم معهم القرآن كأنه يتنزل عليهم من جديد، علمهم التفسير من أحد عشر كتابا مجلدا من كتب التفسير، وعلمهم الحديث من ثمانية عشر مجلدا من أمهات كتب الحديث، وعلمهم علوم الفقه وأصوله من اثنى عشر كتابا جامعا، وقرأ معهم الرسالة القشيرية والمكتوبات والرعاية لحقوق الله وإتحاف السادة المتقين فى شرح إحياء علوم الدين ونفحات الأُنس والرياضة التصوفية فى الرقائق والتصوف، كثيرة هى الكتب التى قرأها معهم فى اللغة العربية والبلاغة والكلام بلغت قرابة العشرين كتابا، كثيرة هى المعانى التى استخلصها من آيات القرآن ومواقف السيرة النبوية المطهرة،

هكذا اصطفاهم وعاش معهم وأتم منهجا تعليميا وتربويا ثم وزعهم فى مختلف الأرجاء يأخذون بـ«همة» الناس يدفعونهم لعمل الخير وهنا تبرز قيمة فكرة « الخدمة» فى استنهاض «همة» رجال الأعمال فى مشروعات البر والخير المنهجية. لقد التقينا على مائدة عشاء فى إسطنبول مع مائة من رجال الأعمال الأتراك فى مختلف القطاعات، استمعنا منهم إلى دور حقيقى يقومون به طاعة لله ثم خدمة لوطنهم تركيا، ثم انفتحوا كذلك لخدمة المسلمين فى أقطار عربية وأفريقية وإسلامية وتقديم منح دراسية للطلبة ليتعلموا، تحدثوا عن دور «فتح الله كولن» فى إقناعهم بالقيام بهذه الأعمال وثقتهم فيه.

يقول شيخ من رجال الأعمال: كنت أسمع عما يقوم به فتح الله كولن وذهبت لمقابلته فى أزمير وطلبت منه المساعدة وإرسال معلمين معى إلى إسطنبول عندما وجدت البيوت التى يسكنها الطلاب الذين يرعاهم نظيفة ومرتبة ورأيت وجوها ناضرة ومؤدبة، فأخبره كولن بأنهم لن ينجحوا فى مهمتهم، لأن هناك عوامل كثيرة ينبغى توفيرها أولاً، أهمها إعداد المعلم نفسه تربويا ليقبل فكرة «الخدمة الإيمانية» فينفذ مشروعا إحيائيا وليس مجرد أداء مهمة تدريس، وإعداد المنهج الذى يقوم المعلم بتنفيذه على الطلبة أخلاقيا وتربويا وشرعيا بجانب العلوم الإنسانية الأخرى منذ ذلك الوقت- يقول رجل الأعمال هذا- ارتبطت بفتح الله كولن حتى اليوم فقد علمنا أن ننفق مالنا كله ويزيد المال دون نقصان!!

إن رجال الأعمال فى مصر وبعض الدول الخليجية يحتاجون لتبنى فلسفة مماثلة لتلك التى ربى عليها فتح الله كولن الناس فى تركيا ونقل التجربة إلى أماكن مختلفة من العالم، لقد قرأنا عن الأغنياء العرب الذين يتبرعون بملايين الدولارات لصالح رعاية «أسد» أو «قط» فى بلاد غربية أو لرعاية فريق لكرة قدم أوروبى ولا يفكرون فى مساعدة ملايين الطلاب الذين لا يجدون فرصا حقيقية لمنح دراسية يتعلمون من خلالها ويبدعون، أو كفالة ملايين الشباب الذين لا يجدون القدرة على الزواج أو تأثيث بيوت الزوجية!!

إن فتح الله كولن قدم مشروعا ربانيا لرجال الأعمال وكل القادرين حسب طاقتهم بأن يبذروا الخير فى كل مكان.. دفعهم لإنشاء وتخصيص بنايات لطلبة الجامعات والمدارس للإقامة بها أثناء دراستهم وكفالتهم كفالة تامة طوال سنوات الدراسة فى مختلف المدن التركية التى بها جامعات، ثم استنهض همة الأغنياء فى بناء جامعات خاصة ومدارس يغرس فيها القيم والمبادئ بلا تعقيدات أو عناوين أو شعارات طالما تاجر بها البعض منا فى مصر وبلادنا العربية، لم يوظف الشعارات الدينية ولم يحاول أن يفعل، المهم هو الجوهر أن يدرك النشء أن يتلقوا رعاية كريمة وأيضا تعاليم ومبادئ راقية وأخلاقاً، هكذا تكون الرسالة مجردة، وها هى تجربة المدارس التركية فى كل بلاد العالم تجد إقبالا شديدا وتحقق نجاحات باهرة..

لم تكن تجربة تقديم «الخدمة الإيمانية» فقط عبر المدارس والجامعات وإنما فى مجالات أخرى، دفع بعض الأغنياء لتأسيس دار صحفية عملاقة هى «مؤسسة الزمان الإعلامية» ودفع آخرين إلى تأسيس محطة تليفزيون استطاعت فى وقت قياسى أن تتحول إلى شبكة من سبع قنوات تليفزيونية وفضائية داخل تركيا، وفى أوروبا أيضا، وفى كل زيارة نقوم بها لهذه المؤسسة أو تلك نجد داخلها واحدا من الذين رباهم فتح الله كولن يعمل فى تجرد وتفان على بذر الخير فى نفوس الناس وتقديم الخدمة الإيمانية لكل الناس.. أليسوا جميعا عيال الله؟!