دستور 1954.. أولى محاولات إعادة «العسكر» إلى «الثكنات»

كتب: سوزان عاطف الخميس 03-05-2012 18:32

ظل دستور سنة 1923 قائماً إلى أن أُلغى فى 22 أكتوبر سنة 1930، وبعد خمس سنوات عاد العمل بدستور سنة 1923، وهو الدستور الذى استمر معمولاً به حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952، وفى العاشر من ديسمبر 1953 أعلن اللواء محمد نجيب، رئيس الجمهورية.. وباسم الشعب سقوط دستور 1923، وقال إنه لا مناص من استبدال هذا الدستور بدستور جديد يمكن للأمة بحق أن تكون فيه مصدر السلطات.

أضاف «نجيب» أن الحكومة آخذة فى تأليف لجنة لوضع مشروع دستور جديد، وفى 14 نوفمبر 1952 قال على ماهر باشا إنه يرجو أن نواجه حياتنا السياسية بدستور يتجنب تخلف دستور 1923 عن مسايرة الديمقراطية الحرة، وأن دستور 1923 قام على المبادئ التى كانت سائدة فى القرن التاسع عشر، ولم يعد صالحاً للبقاء على حالته فى العصر الحديث.

وفى الثالث عشر من يناير 1953 صدر مرسوم بتأليف لجنة لوضع مشروع دستور جديد «يتفق وأهداف الثورة»، عرفت باسم «لجنة الخمسين»، وكان هؤلاء «الخمسون» يمثلون جميع الاتجاهات والأحزاب والطوائف، وقد ضمت أربعة من الوفديين، واثنين من الأحرار الدستوريين، واثنين من السعديين، وثلاثة من الإخوان المسلمين، وثلاثة من الحزب الوطنى، واثنين من الحزب الوطنى الجديد، وثلاثة من رؤساء القضاء، كان منهم الدكتور عبدالرزاق السنهورى «رئيس مجلس الدولة»، وثلاثة من رجال الجيش والبوليس المتقاعدين، وقد انتخب أعضاء «لجنة الخمسين» على ماهر باشا رئيساً لها.

وقدمت «لجنة الخمسين» تقريرها الذى تضمن قرارها بالإجماع أن يكون نظام الحكم جمهورياً، على أن يكون تقرير هذا النظام عن طريق استفتاء شعبى.

وقدمت «لجنة الخمسين» تقريراً مطولاً جداً حول وجوب تغيير الملكية إلى جمهورية، وحيثياته الدستورية والسياسية والتاريخية، وقدمت «لجنة الخمسين» مشروع هذا الدستور إلى مجلس قيادة الثورة فى 15 أغسطس 1954، فوجده مجلس قيادة الثورة ديمقراطياً أكثر من اللازم، وأكثر مما يطيق، فطوح به، على حد تعبير الكاتب صلاح عيسى، ونقلاً عن الدكتور وحيد رأفت: «إن مجلس قيادة الثورة ألقى بهذا الدستور النموذجى فى صندوق القمامة، وتم العثور على النص الكامل له فى صندوق أوراق مهملة بمخزن مكتبة الدراسات العربية التابع للجامعة العربية بالقاهرة، وكان هذا الدستور يقدم صياغة محكمة ومتطورة لنظام جمهورى برلمانى نيابى»، وقد جاء النص الكامل لهذا الدستور فى كتاب أصدره «عيسى».

وقد أنهت «لجنة الخمسين» عملها ووضعت الدستور بعد أكثر من عام ونصف العام من تشكيلها، إلى أن صدر إعلان دستورى مبشراً بدستور جديد، مع استمرار العمل بالإعلان الدستورى الصادر فى 1953، وتم الإعلان عن فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات تنتهى فى 16 يناير 1956.

وفى العاشر من فبراير 1953 صدر النظام الدستورى المؤقت، الذى حكمت به مصر فى فترة الانتقال، والذى تضمن المبادئ الرئيسية، وهى: «جميع السلطات مصدرها الأمة، والمصريون لدى القانون سواء فيما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، حرية الرأى والحرية الشخصية مكفولتان فى حدود القانون، وللملكية والمنازل حرمة وفق أحكام القانون، وحرية العقيدة مطلقة».

وعند نهاية الفترة الانتقالية وفى السادس عشر من يناير 1956، وبعد أن آلت السلطة كاملة وبشكل نهائى لجمال عبدالناصر، وصار رئيسا للجمهورية بعد الإطاحة بنجيب، وضعت الحكومة دستوراً جديداً هو دستور 16 يناير 1956، وقد حدد الدستور الجديد يوم السبت 23 يونيو 1956 موعداً لاستفتاء الشعب على الدستور، وكذلك رئاسة الجمهورية، وتم الاستفتاء وإقرار الدستور واختيار «عبدالناصر» رئيساً، باعتباره بطل الجلاء والقائد الفعلى لثورة يوليو.

وهناك بطل لهذه الوقائع الدستورية هو الدكتور عبدالرزاق السنهورى، فمنذ الأيام الأولى لقدوم الضباط الأحرار على رأس السلطة وضع «السنهورى»، رئيس مجلس الدولة، نفسه وخبرته، بل استخدم وضعه فى مجلس الدولة لإقناع المستشارين الآخرين بتأييد الوضع الجديد، وظهر هذا واضحاً وجلياً فى مشاورات خلع الملك «فاروق» ووضع صيغة التنازل عن العريش.

وقدم «السنهورى» فى أزمة فبراير ومارس 1954 الرأى والمشورة للضباط الأحرار، وعند أول بادرة لوقوفه إلى جانب الديمقراطية ومطالبته بعودة الدستور وحل مجلس قيادة الثورة وعودة الجيش إلى ثكناته تحركت مظاهرة - قيل إنها مدبرة من العسكر - متوجهة من مبنى هيئة التحرير إلى مجلس الدولة، حيث تم الاعتداء المهين على هذا العالم الدستورى وصحبه.

وكان لكل من اللواء محمد نجيب و الوزير، آنذاك، عبداللطيف البغدادى، رواية عن موقف «السنهورى» من أزمة مارس تفيد بأن «السنهورى» اقترح إعادة دستور 1923 فوراً، وحل مجلس قيادة الثورة، وهنا يتضح انحياز «السنهورى» لصف القوى الشعبية التى طالبت بعودة العسكر إلى ثكناتهم والعودة للدستور، فكان أن اعتدى المتظاهرون على رئيس مجلس الدولة بعد أن وصفهم أحد المستشارين بالمأجورين، وكان اللواء محمد نجيب قد ذكر فى كتابه «كلمتى للتاريخ» عن أحداث 30 مارس 1954 «أن المظاهرة كانت مدبرة وأنها توجهت من مبنى هيئة التحرير إلى مجلس الدولة».

واقتحم المتظاهرون مبنى مجلس الدولة الذى سحبت الحراسة من حوله ودخلوا إلى قاعة الاجتماع واعتدى المتظاهرون على الدكتور عبدالرزاق السنهورى وعلى باقى الأعضاء بالضرب الشديد ومزقوا القرار الذى تم اتخاذه وبعد أن تم حبس مستشارى مجلس الدولة فى قاعة الاجتماعات تم إجبارهم على توقيع بيان بتأييد مجلس الثورة.

بقى أن نذكر بعضا من سيرة بطل هذه القصة وهو الدكتور عبد الرزاق السنهورى فهو مولود بالإسكندرية فى 11 أغسطس سنة 1895، وتلقى فيها تعليمه الابتدائى وحصل على الثانوية فى 1913، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة الحقوق وحصل منها على الليسانس سنة 1917.

وبعد تخرجه عين عضواً بالنيابة العامة وتدرج فى الوظائف حتى رقى وكيلا للنائب العام سنة 1920، ثم انتقل بعد ذلك لتدريس القانون فى مدرسة القضاء الشرعى وسافر إلى باريس سنة 1921، فى بعثة حصل خلالها على الدكتوراه فى العلوم القانونية وعلى الدكتوراة فى العلوم الاقتصادية والسياسية وعلى دبلوم القانون الدولى وعاد إلى مصر سنة 1926، ليعمل مدرساً للقانون المدنى بكلية الحقوق حتى أصبح أستاذاً مساعداً، فأستاذاً، ثم انتخب عميداً للكلية سنة 1936.

فى 3 أغسطس 1937 شكل مصطفى النحاس وزارته الرابعة فى أعقاب وزارته الثالثة التى شكلها فى 9 مايو 1936. وفى الوزارة الرابعة تم استبعاد محمود فهمى النقراشى ومحمد صفوت ومحمود غالب وعلى فهمى وكان هذا الإبعاد نتيجة للخلافات الداخلية، وكان بدوره بداية لتفاقم الخلافات واستغلت السراى وأحزاب المعارضة وعلى ماهر والشيخ المراغى الفرصة لتعميق الخلافات داخل الوفد وانضم أحمد ماهر إلى هذا التكتل وحدث الانشقاق الخطير فى تاريخ الوفد فى سبتمبر 1937، وكان السنهورى باشا صديق النقراشى إلى جانب قادة هذا الانقسام إلى أن شكل المرحوم على ماهر أحمد ماهر وزارته الثانية فى 15 يناير 1945، واختير «السنهورى» وزيراً للمعارف وبعد اغتيال ماهر شكل النقراشى الوزارة فى 24 فبراير 1945 حتى فبراير 1946، وعندما شكل إسماعيل صدقى وزارته فى 16 فبراير1946، لم يدخلها السنهورى ولكنه دخل فى التعديل الذى أجرى فى 11 سبتمبر 1946، وكان «السنهورى» وزيرا للدولة حتى 9 سبتمبر 1946، وعاد النقراشى رئيسا للوزارة فى التاريخ نفسه، حتى 28 ديسمبر 1948، كما عمل السنهورى وزيرا للمعارف لكنه استقال فى فبراير عام 1949.

وعين رئيسا لمجلس الدولة من عام 1949 إلى عام 1954، ويوم ترك وزارة المعارف ليرأس مجلس الدولة قال للدكتور مهدى علام «أترك المعارف وقد نجحت فى معظم مشروعاتى وأخفقت فى تأمين الدروس الخصوصية وتوزيع الحجرات على كبار الموظفين».

أثرى السنهورى المكتبة القانونية بمؤلفاته وظل عضوا لمجمع اللغة العربية منذ سنة 1946 حيث أسهم فى وضع كثير من المصطلحات القانونية إلى أن لقى ربه سنة 1971.

كما أوفد السنهورى إلى مؤتمرات دولية كثيرة فكان رئيس الوفد المصرى فى مؤتمر القانون المقارن سنة 1932 ورئيس الوفد المصرى إلى لندن فى مؤتمر فلسطين سنة 1946، وفى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى العام نفسه، وعضوا فى الوفد المصرى الذى تقدم بشكوى مصر ضد انجلترا أمام مجلس الأمن سنة 1947.

لم يقتصر دوره فى التوجيه على دارسى القانون فى مصر بل شمل كل أبناء البلاد العربية كان كل مؤلف يعد كتابا أو رسالة فى القانون يحرص على أن يلقى السنهورى لكى يعرض عليه عمله ويستنير برأيه وبعض الأساتذة العرب المتفرغين لدراسة الشريعة الإسلامية يطلقون على السنهورى لقب «الإمام الخامس» بعد الأئمة الأربعة وفى العراق يلقبه تلاميذه بالأستاذ الإمام فهو الذى وضع للعراق قانونه المدنى الذى جمع فيه بين أحكام القوانين العصرية الوضعية وأحكام الشريعة الإسلامية.

كذلك وضع السنهورى القانون المدنى السورى، كما وضع القانون المدنى الليبى، ثم وضع قوانين دولة الكويت ودستورها، كما وضع الدستور السودانى وكان آخر عمل تشريعى قام به للبلاد العربية هو مشروع وضع دستور لاتحاد إمارات الخليج العربى ولكنه لم يتمكن من إتمامه لظروف صحية، كما وضع السنهورى لإمارة البحرين مجموعة من القوانين العصرية. وكان نشاط السنهورى كمشرع للبلاد العربية سببا فى إيجاد وحدة فكرية فى الميدان القانونى بين أبناء البلاد العربية.