سـعد هجـرس يكتب: ممنوع الدخول: توارد الخواطر بين «الإمارة» و«الحارة» و«النقابة»

الثلاثاء 29-12-2009 00:00

المظالم كثيرة فى هذا العالم، خاصة فى عالمنا العربى الذى يتعرض لظلم تاريخى طويل من قوى خارجية «مفترية»، لكن ظلمه لنفسه ولأبنائه أقسى وأضل سبيلاً.

ولأننا «رعايا» ولسنا «مواطنين» - بالمعنى الدقيق للكلمة - فإن كثيراً من هذه المظالم يدخل فى باب المسكوت عنه، وفى الحالات القليلة التى نقرر فيها التمرد على الصمت لا نملك سوى إصدار «بيان»، ولذلك تشكل بيانات الشجب والإدانة والاستنكار جزءاً من الثقافة السائدة من المحيط إلى الخليج. وعادة ما ينتهى «مفعول» هذه البيانات بمجرد قراءتها لأن الكلمات تتحول فيها إلى بديل عن الفعل.

وعندما قامت السلطات الكويتية بمنع المفكر المصرى الكبير نصر حامد أبوزيد من دخول إمارة الكويت بتحريض من جماعات أصولية متطرفة، مارسنا العادتين العربيتين معاً، فسكت معظمنا بينما أصدر عدد قليل من مثقفينا بياناً يدين ويشجب ويستنكر.

لكن بيان التضامن مع نصر حامد أبوزيد شهد أموراً غير مألوفة وغير معتادة، تجعله يستحق «بياناً» تفسيرياً لما حدث.

فهناك ثلاثة أمور أساسية لافتة للنظر ارتبطت بالبيان التضامنى مع نصر حامد أبوزيد: أولها يبع+ث على الفرح، وثانيها يبعث على الغضب والأسف، وثالثها يبعث على التأمل.

*** 

الأمر الأول هو أن أول من تلقفه وارتكز عليه من أجل القيام بـ«عمل» تضامنى جاد مع الدكتور أبوزيد كان زميلنا محمد عبدالقدوس، عضو مجلس نقابة الصحفيين، رئيس لجنة الحريات بالنقابة.

وليس سراً أن محمد عبدالقدوس ينتمى إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، الذين تربطهم قرابة فكرية وأيديولوجية مع بعض الفصائل الكويتية التى تناصب نصر حامد أبوزيد العداء، بل إن بعضها يفتى بإهدار دمه.

ومن هنا.. كانت المفاجأة الحقيقية أن يتحمس محمد عبدالقدوس لعقد ندوة تضامنية مع الدكتور أبوزيد داخل نقابة الصحفيين المصريين.

ولاشك أن هذا موقف محترم يستحق التحية والإكبار، ويدل على نضج إنسانى وفكرى - نفتقده للأسف الشديد فى معظم الأحيان - ونقلة نوعية فى التعامل «الانتقائى» مع مسألة الحرية ووضعها – ربما لأول مرة من جانب إخوانى مصرى - قبل الانتماء الأيديولوجى.

وتركيزى على هذه النقطة يتجاوز إعجابى بموقف الزميل العزيز محمد عبدالقدوس، حيث يراودنى الأمل فى أن يكون هذا الموقف الفردى بداية التحول لموقف عام، على الأقل من جانب قطاع أو جناح من جماعات الإسلام السياسى المصرى، ينتصر لقضية الحريات العامة والخاصة ويضعها فوق الانحيازات الأيديولوجية، لتكون أحد «المشتركات» الفعلية بين الجماعة الوطنية.. على اختلاف مشاربها.

وفى ظنى أن الأمر لو كان كذلك فإننا نكون إزاء فرصة جديدة يجب تقييمها دون تهوين أو تهويل، واستخلاص النتائج السياسية المترتبة عليها دون تعسف أو إهمال.

■ ■ ■

الأمر الثانى، أن بعض الأشخاص فى نقابة الصحفيين المصريين تصرفوا – فى هذا السياق - بصورة بيروقراطية غبية، حيث انتهزوا فرصة غياب النقيب المحترم والمستنير الأستاذ مكرم محمد أحمد، وتعذر الاتصال به أثناء سفره إلى الخارج لتغطية مؤتمر كوبنهاجن، وتعللوا بأمور تافهة لمحاولة منع تضامن الصحفيين المصريين مع نصر حامد أبوزيد، بل إنهم أغلقوا أبواب النقابة بالفعل لمنع دخوله أو دخول المتضامنين معه، وأصبح الموقف بالغ الغرابة حيث إن تصرفات هؤلاء شوهت موقف النقابة ووضعتها – عملياً - فى الخندق نفسه الذى يقف فيه المتطرفون الكويتيون الذين اتخذوا قرار منع الدكتور أبوزيد من الدخول.. صحيح أن الأسباب تعددت لكن النتيجة واحدة.

ولولا اتصالات محمومة قام بها عدد من الزملاء، فى مقدمتهم الكاتب الصحفى المحترم عاصم حنفى، لتحول الأمر إلى فضيحة مدوية.

وأسفرت هذه الاتصالات والمفاوضات عن حل وسط غريب قبل الموعد المقرر للندوة التضامنية ببضع دقائق فقط، وكان مضمون هذا الحل الوسط هو السماح بدخول الدكتور نصر حامد أبوزيد والمتضامنين معه من باب النقابة، لكن إلى الردهة فقط، أى عدم السماح باستخدام أى قاعة من قاعات النقابة المجهزة بالميكروفونات والمقاعد. والحمد الله أنهم سمحوا لنا بسبعة مقاعد لا ثامن لها، وإلا لاضطر «أبوزيد» للجلوس على البلاط هو وكبار المثقفين الذين جاءوا للتضامن معه، وفى مقدمتهم الدكتور جابر عصفور والأستاذ عادل حمودة.

وجاءت الفضائيات من كل حدب وصوب، وتحدث أبوزيد فى ظل هذه الظروف اللامعقولة التى وضعت نقابة الصحفيين فى وضع مشين لا يليق بها على الإطلاق.

■ ■ ■

وهذه النقطة تنقلنا مباشرة إلى النقطة الثالثة، ألا وهى ردود الفعل للبيان التضامنى مع أبوزيد، ومقال كاتب هذه السطور فى هذه الصفحة الأسبوع الماضى.

ولفت نظرى أن المقال المشار إليه أطلق سيلاً من ردود الأفعال التى يمكن وضعها فى فئتين رئيسيتين:

الفئة الأولى عبرت عنها رسائل كثيرة جداً، تبلورها جميعها رسالة بالغة الأهمية، وأهميتها تعود – أولاً - إلى شخص كاتبها وهو الزميل العزيز الأستاذ سامى الرزاز، الذى كان من ألمع وأذكى العقول الصحفية المصرية، لكن الأمم المتحدة اختطفته منا حيث يعيش فى نيويورك منذ ما يقرب من عشرين عاماً ويتبوأ منصباً مرموقاً فى مقر الأمم المتحدة.

يقول سامى الرزاز: «الموضوع لا علاقة له بكرامة المصريين أصلاً، فالموقعة عَرَض من أعراض الصراع الدائر فى أنحاء المنطقة كلها بين تيارات الإسلام السياسى وفصائلها السلفية والظلامية وبين التيارات المستنيرة المتقدمة. ولو كان الدكتور نصر حامد أبوزيد كويتياً لمنعوه أيضا من الدخول (هذا إذا سمحوا له بالخروج أصلاً) وليت الصديق سعد هجرس يتذكر أن مصر هى التى سبق أن أصدرت حكماً قضائياً بتكفير الدكتور أبوزيد والتفريق بينه وبين زوجته، وهو ما اضطره للعيش فى منفاه فى هولندا. وإذا كانت السلطات المصرية تسمح له بدخول مصر والبقاء فيها، فإن ذلك يتم بشكل ودى لا يغير شيئاً من وضعه القانونى (أو غير القانونى!)، ثم إن مصر نفسها تمنع من تشاء من دخول أراضيها دون أن يعترض أحد، والمفارقة أن آخرهم كان نائباً فى البرلمان الكويتى الشهر الماضى!».

أما الفئة الثانية من ردود الأفعال - وهى للأمانة ليست قليلة بل ربما كانت كفتها هى الأرجح - فهى بمثابة استنكار للتعاطف مع نصر حامد أبوزيد أو التضامن معه، انطلاقاً من تكفيره.

ولا توجد مشكلة بالنسبة للفئة الأولى، التى تمثلها الرسالة المحترمة للكاتب الكبير سامى الرزاز – الذى نفتقده ونفتقد قلمه كثيراً - لأنها تثرى القضية المطروحة، وتلقى مزيداً من الأضواء على دهاليزها وسراديبها المعقدة والمتشابكة والمعتمة.

المشكلة بالأحرى مع الفئة الثانية التى تتسع قاعدتها فى ظل استشراء وتغول الثقافة اللاعقلانية والأفكار التكفيرية المتزمتة والمتعصبة.. والعقدة هى أن هؤلاء مواطنون مصريون، تحرك معظمهم نوايا حسنة وغيرة على الدين الحنيف الذى يظنون أنه يتعرض للخطر، فى حين أن كل الجدل الدائر فى المجتمع (دنيوى) من أوله إلى آخره.

وبالتالى فإن الخروج من هذا المأزق الحقيقى ليس بالتعالى عليهم أو تجاهلهم وإنما بتأمل هذه الظاهرة المخيفة والبحث عن سبيل لتفكيكها – بالعقل - قبل أن ترتد مصر إلى العصور الوسطى.

hagrassaad@hotmail.com